هل يمكن أن يخبرنا صالون الكتاب الدولي في دورته الثامنة والعشرين الذي احتضنته الجزائر بين 29 أكتوبر و9 نوفمبر الحالي، عن حالة الجزائر كمجتمع، تحولات سوسيو- ثقافية، ونظام سياسي بما يفترضه من علاقة مع المواطنين؟ قراءة نبدأ فيها من علاقة الجزائري، المربكة بالقراءة والكتاب، وهي تطفو إلى السطح بشكل جماعي في أروقة صالون الكتاب الدولي، هذا ما سأحاول القيام به هذا الأسبوع وأنا أتكلم عن أشكال التضييق التي عاشها صالون الكتاب الدولي هذه السنة، على غرار السنوات السابقة، منع طال هذه السنة – دار نشر كوكو- الجزائرية التي مسها هذا التعسف للسنة الثالثة على التوالي، لتصل فيه أصداء هذا المنع إلى أروقة العدالة، بحجة نوعية ما تقترحه هذه الدار المشاكسة من كتابات لم يرض عنها المنظمون.
في وقت لم تتكلم فيه الصحافة الوطنية والدولية، عما يكون قد تعرض له الناشرون ـ الدوليون خاصة – من تضييق يبدو أنهم صاروا أكثر تكيفا معه مع الوقت، يعرفون كيف يتجنبونه، بعدم إحضار ما يغضب المنظمين. بنية عدم مواجهة الطرف الجزائري للأهمية التجارية لمعرض الجزائر، في زمن يعيش فيه الإعلام الوطني تكميما كبيرا لم يعد فيه قادرا على الكلام عن أنواع التضييق، التي ما زال يعيشها المعرض، كما تأكد هذه السنة كذلك على شكل غياب دور النشر الفرنسية الذي ما زال الغضب السياسي الجزائري الرسمي مسلطا عليها.
وهو ما يحيل إلى الكلام عن الحضور الشعبي الكثيف، الذي يميز معرض الجزائر الذي زاره حوالي ستة ملايين مواطن هذه السنة، حسب المنظمين. حضور شعبي لا يقتصر على أبناء العاصمة والمناطق القريبة منها، يدل عليه ترقيم السيارات التي تقصد المعرض من يوم انطلاقه الأول الذي يصادف عطلة المدارس، مما سمح للكثير من العائلات، المدارس والجمعيات بتنظيم رحلات يومية نحو المعرض ساعد عليه أكثر هذه السنة الجو الخريفي الجميل، الذي صادف أيام فتح المعرض لأبوابه لملايين الجزائريين، الذين كان يقصدونه كل يوم. سهلته أكثر شبكة الطرق الحديثة التي أنجزتها الجزائر، والتي بدأت نتائجها بما فيها الثقافية في البروز. لنكون أمام مشهد ديموغرافي يعكس بصدق الحالة الجزائرية، يمكن أن نعاينها بالعين المجردة بين أروقة المعرض. يحتل فيه الشباب من الجنسين الصدارة، من دون أن يقلل من حضور فئات العمر الأكبر سنا، بما يميزهم من قدرة شرائية وخصوصية في الاهتمام الثقافي واللغوي، الذي تسيطر عليه اللغة الفرنسية. عكس الشباب الأكثر ميلا للعربية، يؤكد التأثير الذي أنجزته المدرسة الوطنية على هذه الأجيال الشابة ابنة الاستقلال. كما تجلى في المعرض مع الحشود الشبابية ـ البنات أكثر من الذكور – التي استقبلت الروائي السعودي أحمد أل حمدان، الذي تعرف عليه جمهوره الجزائري الواسع عن طريق الوسائط الاجتماعية، كما يبدو، وليس فقط عبر قراءة روايته التي أعجب بها هذا القارئ الشاب بعوالمها الخيالية والعجائبية. ظاهرة تكررت مع مؤثرين جزائريين اهتموا بالسياحة والترفيه في كتاباتهم، لاقت حضورا شبابيا من الجنسين في أروقة المعرض هي الأخرى. لنكون أمام مشهد ثقافي جزائري أكثر تنوعا، قلّ فيه التركيز على الكتاب الديني نسبيا، الذي اشتهر به معرض الجزائر في سنوات خلت، عندما كانت الحركات الإسلامية في حالة صعود قبل الانتكاسات التي عاشتها في السنوات الأخيرة. ظهر على شكل ذلك الازدحام الكبير في معرض الجزائر من قبل الشباب على روائي الفنتازيا السعودي، الذي كانت دولته وراء حضور الكتاب الديني السلفي، قبل أن تغير خياراتها، ويظهر فيها هذا الروائي الشاب الذي أعجب به الشباب في الجزائر من الجنسين.
اهتمام – بدرجة أقل- بالرواية العربية والجزائرية باللغتين كذلك، التي اقتحمتها هذه السنة وجوه جديدة من الجنسين. زيادة على الوجوه المكرسة التي تعودت على تقديم الجديد للقارئ الجزائري، بمناسبة كل دورة من دورات المعرض، كما هو الحال مع رشيد بوجدرة وواسيني لعرج وأمين الزاوي ومايسة باي، زيادة على الجيل الأصغر، مثّله هذه السنة بشير مفتي ولخير شوار وسمير تومي وغيرهم من الذين اعتذر عن عدم التذكير بما اقترحوه للقارئ الجزائري هذا السنة، باللغتين لأعدادهم الكبيرة. في وقت ما زال فيه النشر في البلد يعيش العديد من العوائق، ليس أقلها نوعية الطباعة المتواضعة، متفاوتة الجودة وإشكال التوزيع، الذي ما زالت تعاني منه، ما فرض على الكتاب المبتدئين القيام بنوع من التمويل الذاتي لكتبهم حتى تصل الى القراء، حسبما يتم تداوله في الساحة الثقافية.
إنتاج ميز الساحة الثقافية على الدوام، مال في السنوات الأخيرة نحو اللغة العربية أكثر، كاتجاه ثقيل يميز الساحة الثقافية الجزائرية، التي تعرف اهتماما جديدا يزداد حضورا كل سنة بالمؤلفات المكتوبة باللغة الإنكليزية، وانتشارا أكبر لدى الأجيال الصغيرة في السن من الجزائريين من الجنسين، كما تؤشر عليه الطوابير الملاحظة على المنتوج الثقافي باللغة الإنكليزية، الذي اقتحمته هذه السنة باحثات جامعيات جزائريات، كما حصل مع الأستاذة الشابة في العلوم السياسية إيناس بلعباس، ابنة الفئات الوسطى التي انتجتها مدينة خنشلة، تأكيدا لهذا الحضور الذي ميز المرأة الجزائرية بعد استفادتها القوية من انتشار التعليم في الجزائر بما فيه بنات المدن الصغيرة والمتوسطة، التي دارت وجهها نحو الإنكليزية وليس الفرنسية، كما هو حاصل في المدن الكبرى. استفادة، زاحمت فيها البنت الشاب كما يظهره حضورها القوي في الجامعة وداخل عالم الشغل، رغم ما تعيشه من آثار سلبية حتى الآن، نتيجة تداعيات قانون السقف الزجاجي المشهور.
عرف معرض كتاب هذه السنة من جهة أخرى – كما ساد في الدورات السابقة- تنظيم نشاطات ثقافية وفكرية موازية عديدة، شارك فيها الكثير من الوجوه المتعودة على الحضور في مثل هذه النشاطات، أغضبت البعض لما أحسوا به من تهميش، يتكلم عنه المثقف الجزائري كثيرا نتيجة الاحتكار الرسمي للساحة الثقافية بمقاييسها السياسية الصارمة، التي تفترض كشرط أساسي للمشاركة الولاء لصاحب القرار السياسي – مول الساعة كما يقول الجزائريون ـ ما زال يمنع الجزائريين من إنتاج حياة ثقافية تعددية مفتوحة، يبادر بها المثقفون كفاعلين أحرار في بلدهم، ظاهرة ما زالت غائبة عن المدينة الجزائرية، التي تكرس داخلها قحط ثقافي كبير خارج المناسبات الوطنية الكبرى، كما هو حال فترة تنظيم صالون الكتاب الدولي، التي تنتعش فيه لقاءات الجزائريين بينهم لمدة لا تتجاوز العشرة أيام، نتيجة الإملاءات السياسية التي تفرض نفسها على الحياة الثقافية، أفرزت مدينة فقيرة ثقافيا لا تليق بعاصمة متوسطية كبيرة، مثل مدينة الجزائر، إذا استثنينا بعض البؤر الصامدة التي ينشطها الشباب خلسة عن عين الرقيب المتوجس من كل ما يجمع الجزائريين خارج الأطر الرسمية.
ناصر جابي

تعليقات الزوار
لا تعليقات