للوهلة الأولى، تبدو حاسي بحبح مدينة هادئة على عتبة الصحراء، لكن من يقترب أكثر من تضاريسها البشرية والعمرانية، يدرك أنها مدينة متحوّلة، كتبت تاريخها بأمكنتها، واحتفظت في دروبها بأصوات الذين مرّوا بها من فلاحين، ومريدي زوايا صوفية، وجنودٍ، ويهودٍ، ومبدعين.
تبدو لهم أكثر من مجرد نقطة على خريطة الجلفة، بل سيرة مكانٍ عاش التحوّل من الريف إلى المدينة، من البساطة إلى التعقيد، ومن الخفاء إلى الحضور الثقافي والفني.
المدينة السهبية والتحوّل العمراني
وُلدت حاسي بحبح تحت خيمة السهوب الواسعة، حيث كان المكان منبسطا مثل قصيدة مفتوحة على الريح. قبل أن يزحف العمران، كانت الحياة فيها تقوم على الترحال وزيارة الزوايا والقباب الصوفية، التي شكّلت روح المكان ومصدر بركته. كانت الزوايا مثل زاوية الحاج المداني، ومقام سيدي عيسى وغيرها، نوافذَ روحية تحفظ توازن الناس بين الأرض والسماء. مع مطلع القرن العشرين، ومع دخول الاستعمار الفرنسي، تغيّر وجه المدينة. بنى الفرنسيون كنيسة ومدرسة وحانة ومركزا عسكريا، فبدأت حاسي بحبح تعرف أولى انقساماتها المكانية: بين المقدّس والمدنّس، بين الأصيل والدخيل، فتركت هذه البنية المكانية المركّبة أثرا عميقا في وعي ساكنتها، وخلقت ما يشبه الحوار الصامت بين أطراف المدينة، ظلّ يتردّد صداه حتى اليوم.
التحوّلات الاجتماعية وتعدّد الطبقات
جمعت حاسي بحبح، في نسيجها الاجتماعي، بين أبناء القبائل الزراعية، وأبناء الأسر الحضرية، بين الفقراء الذين حملوا سحنة الريف، والوجهاء الذين ورثوا جاها من التاريخ. تشكّلت بذلك فسيفساء بشرية تعكس تنوع الطبقات وتشعب الحكايات والمصائر. نسمع في حاراتها اليوم صدى تلك الازدواجية: من يحمل حنينا إلى البداوة، ومن ينتمي إلى المدينة الجديدة بأبراجها ومقاهيها ومدارسها. غير أن هذا التنوّع الطبقي، لم يكن مصدر صراع بقدر ما كان ينبوع إبداع، ومسالك للقاء، إذ تغذّى منه الأدب المحلي والذاكرة الشعبية، وبرز منه جيل يكتب عن الفقر، لا بوصفه عارا، بل تجربة إنسانية غنية.
التنوّع العرقي والديني

خلال فترة الاستعمار، كانت المدينة ملتقى للأعراق والديانات، سكنها المسلمون، واليهود، والمسيحيون، وتجاوروا في الأسواق والورشات. في وسط البلد كانت زارين اليهودية، رمزا لذاك التنوع الغريب، حيث يلتقي الغناء مع الدّعاء، والإيمان مع الحرية. ظلّت حاسي بحبح، مختبرا مصغّرا للتنوّع الجزائري، حيث تذوب الفوارق أحيانا في الحياة اليومية، وتشتعل أحيانا أخرى في لحظات التاريخ العاصف، لكن ما يميزها هو قدرتها على امتصاص الاختلاف وصهره في روح المكان.
الأحياء: جغرافيا الذاكرة
تتحدث أحياء حاسي بحبح عن تاريخها، أكثر من كتب المؤرخين. في حي المحطة، ينهض الجامع الكبير شاهدا على زمنٍ كانت المئذنة تطلّ فيه على بقايا كنيسة قديمة، في مشهدٌ يلخّص كل تناقضات المدينة. وفي حي المناضلين، ما زال المكتب العسكري الفرنسي يذكّر بأعوام الدم والنار، حين كان شباب المدينة يحفرون طريق الحرية. أما حي بوعافية، فهو قلبها النابض بالروح الدينية، حيث جامع «مالك» العريق، الذي يجمع بين التقليد والتجديد، وبين صوت الإمام ودفء الأسواق الشعبية. وفي حي القندوز وحي «فلسطين»، تتجاور العائلات القديمة مع الضيوف الجدد، في توازن معقّد وغريب لكنه إنساني ونبيل. هذه المدينة المتعددة الأمكنة والانفعالات، لم تكتف بأن تكون ذاكرة، بل أصبحت مادة إبداعية. أغرت أبناءها بكتابة نصوصٍ تستعيد تلك التحوّلات، من الرواية إلى القصة القصيرة، ومن الشعر إلى الفنون التشكيلية.
صفحات من رواية لم تكتمل
في الرواية، برزت حاسي بحبح كرمزٍ للمكان الجزائري المتحوّل، حيث يختلط الواقعي بالأسطوري، والذاكرة بالخيال. فالمكان هنا ليس مجرد خلفية للأحداث، بل شخصية فاعلة تشارك في بناء الوعي الفني والإنساني. من رحم أحيائها وملامحها المتناقضة وُلدت نصوصٌ تكتب الإنسان وهو يتحوّل، وتكتب المكان وهو يعيد تشكيل ذاته.
نموذج التعدد والتفرد
ليست حاسي بحبح، بما تحمله من تعدّد جغرافي وعرقي وروحي، مجرد مدينة صغيرة في قلب الجزائر فحسب، بل نموذج مصغّر لوطنٍ كامل. فيها تتجاور الزاوية مع الكنيسة، والذكر مع الغناء، والفقر مع الكرامة. إنها ليست مدينة عادية. هي ذاكرة مفتوحة على الغياب والحنين، وعلى جيلٍ جديد يحاول أن يفهم تاريخه من خلال الفن. فيها تتعايش الزوايا والقباب والكنائس والمقاهي، كما تتعايش الفطرة والحداثة. حين تسير في شوارعها اليوم، تدرك أنّ المكان لا يزال يحتفظ بصوته الأول: صوت المؤذن المختلط بصوت الريح، وصوت البائع في السوق القديم وهو يردد مثلا شعبيا لا يموت. لقد استطاعت حاسي بحبح – عبر قرن من التحوّل – أن تكتب نفسها مرتين: مرة بالتاريخ، ومرة بالإبداع. وفي الحالتين، ظلّ المكان هو البطل، والإنسان هو الراوي الذي لا يتعب من سرد الحكاية.
وإذا كان الإبداع هو ابن المكان، فإن حاسي بحبح كانت دائما تربة خصبة للمبدعين الذين عرفوا كيف يحوّلون ترابها وذاكرتها إلى كلمات وصور وأحلام.


تعليقات الزوار
لا تعليقات