طُرحت في الجمعية الوطنية الفرنسية مؤخرا، مبادرتان برلمانيتان متكاملتان تتعلقان بإرث التجارب النووية الفرنسية، خاصة التي أجريت في الصحراء الجزائرية والتي تسببت في كوارث على الإنسان والبيئة ولا تزال آثارها إلى اليوم.
وتمثل هاتان المبادرتان محاولة سياسية وتشريعية لإعادة فتح أحد أكثر الملفات حساسية في التاريخ الفرنسي المعاصر، من خلال السعي إلى إنصاف الضحايا وتثبيت الاعتراف الرسمي بما خلفته تلك التجارب من آثار إنسانية وبيئية وصحية دائمة، وهو ما يعكس تحولا في النقاش البرلماني الفرنسي حول ضرورة مواجهة ماضي التجارب النووية بشفافية أكبر، بعد عقود من الغموض والصمت الرسمي.
ويستند المقترح الأول المقدم من قبل النائبة ميرانا ريد أربيلوت والنائب ديدييه لو غاك، إلى مراجعة شاملة لتاريخ التجارب النووية الفرنسية التي بدأت في الجزائر بين عامي 1960 و1966 في موقعي رقان والهقار، قبل أن تُنقل إلى بولينيزيا الفرنسية، حيث استمرت حتى عام 1996.
وخلال تلك العقود، نفذت فرنسا ما مجموعه 210 تجربة نووية، تركت آثاراً صحية وبيئية جسيمة على العسكريين والسكان المحليين، سواء في الصحراء الجزائرية أو في جزر بولينيزيا. ويشير المقترح إلى أن الغموض العسكري والتعتيم الإعلامي آنذاك، إضافة إلى البعد الجغرافي للمواقع، أسهما في طمس حجم الكارثة ومنع الضحايا من الحصول على الاعتراف والإنصاف.
ويستند المشروع إلى تقييم نقدي لقانون موران الصادر في 5 يناير 2010، الذي أنشأ لأول مرة آلية رسمية لتعويض ضحايا التجارب النووية. ورغم أهميته الرمزية، إلا أن القانون واجه انتقادات شديدة بسبب طابعه الانتقائي وبيروقراطيته المعقدة، إذ اشترط توافر ثلاثة شروط متزامنة للحصول على التعويض: إثبات الوجود في منطقة تعرضت للإشعاع خلال فترة معينة، الإصابة بأحد الأمراض الـ23 المحددة في قائمة رسمية، وإثبات العلاقة السببية المباشرة بين المرض والتعرض. هذه الشروط، كما يشير مقترح القانون الجديد، أدت عملياً إلى إقصاء عدد كبير من الضحايا، في ظل غياب الوثائق الطبية والإدارية الكافية، خصوصاً في المناطق النائية.
ويقترح النص الجديد تجاوز هذا النظام نحو مقاربة أكثر إنصافاً تستند إلى مبدأ «المسؤولية عن المخاطر»، باعتبار أن الدولة هي من عرّضت المدنيين والعاملين العسكريين لتلك المخاطر. وبناءً عليه، يصبح مجرد إثبات الإصابة بمرض وارد في القائمة، مع الإقامة أو العمل في المناطق المعنية، كافياً للحصول على التعويض دون الحاجة إلى إثبات العلاقة السببية المباشرة. كما يوسّع المقترح دائرة المستفيدين لتشمل الضحايا غير المباشرين من أفراد الأسرة.
وينص المقترح كذلك على إنشاء لجنة مشتركة بين الدولة وصناديق التأمين الصحي، تتولى تقييم التكاليف الطبية للأمراض الناتجة عن الإشعاع وتعويضها، وتقديم تقرير سنوي إلى البرلمان والحكومة وسلطات بولينيزيا. كما يمنح لجنة متابعة آثار التجارب النووية (CSCEN) صلاحيات موسعة لتحديث قوائم الأمراض والاعتراف بحالات جديدة وفق المعطيات العلمية المتقدمة. ويلغي النص العمل بما يعرف بـ«حد الإشعاع المقبول»، معتبراً أن كل من أصيب بمرض مدرج في القائمة وكان ضمن مناطق التعرض يستحق التعويض الكامل، مع إعفاء هذه التعويضات من الضرائب ومنع أي ملاحقات قضائية إضافية بعد القبول بها.
ويكرس المقترح أيضا بُعدا للذاكرة، عبر تحديد الثاني من يوليو يوماً وطنياً لإحياء ذكرى ضحايا التجارب النووية، وهو تاريخ أول تجربة نووية فرنسية في بولينيزيا سنة 1966. كما يدعو إلى فتح الأرشيف العسكري والعلمي المتعلق بهذه التجارب، وتشجيع الأبحاث والدراسات حول آثارها، وتضمين هذه المرحلة في المناهج التعليمية لتعزيز الوعي التاريخي لدى الأجيال الجديدة. ويشير النص إلى أن تفاصيل تطبيقه ستُحدّد بمرسوم يصدر عن مجلس الدولة، على أن تتحمل الدولة الفرنسية التكاليف المترتبة عنه، في خطوة تهدف إلى تحقيق اعتراف شامل يعيد الثقة بين الدولة والضحايا بعد عقود من التجاهل.
أما المبادرة الثانية، فقد قدمت من قبل النائبة دومينيك فوانيه وعدد من النواب من كتل سياسية مختلفة، وتقترح إنشاء لجنة تحقيق برلمانية خاصة بالتجارب النووية الفرنسية في الجزائر، لبحث ظروف إجرائها ونتائجها، وآثارها الصحية، والبيئية، والإنسانية. وتعدّ هذه الخطوة الأولى من نوعها في تاريخ الجمعية الوطنية، إذ تهدف إلى تسليط الضوء على مرحلة ظلّت لعقود شبه معتمة، رغم أهميتها في العلاقات التاريخية بين فرنسا والجزائر.
المشروع يستعيد الخلفية التاريخية التي بدأت مع أول تجربة نووية فرنسية في 13 فبراير 1960 في منطقة رقان تحت اسم «اليربوع الزرقاء»، تلتها ثلاث تجارب جوية أخرى قبل أن تنتقل الاختبارات إلى موقع إن إكر في جبال الهقار، حيث أُجريت 13 تجربة تحت الأرض حتى عام 1966، منها 11 بعد استقلال الجزائر. ويشير المقترح إلى أن المادة الرابعة من «إعلان المبادئ» الملحق باتفاقيات إيفيان سمحت لفرنسا بمواصلة هذه التجارب على الأراضي الجزائرية خمس سنوات بعد الاستقلال، دون أي التزام بالشفافية أو الرقابة أو معالجة الأضرار، وهو ما يعدّ حالة فريدة في التاريخ المعاصر، حيث استمرت قوة استعمارية في تنفيذ تجارب نووية داخل أراضي دولة مستقلة حديثاً.
ويتطرق النص إلى حادثة «بيريل» الشهيرة عام 1962، التي أدت إلى تسرب إشعاعي واسع بعد انفجار في نفق تجريبي بإن إكر، ما تسبب في إصابة مئات الأشخاص، بينهم مسؤولون عسكريون كبار، بجرعات إشعاعية عالية. كما يورد تفاصيل عن تجارب أخرى شملت دفن النفايات المشعة في الرمال أو تعريض الجنود عمداً للإشعاعات لمراقبة تأثيراتها، في ممارسات تُعتبر اليوم انتهاكا صارخا للمعايير الأخلاقية والعلمية. ويشير المقترح إلى أن آثار هذه التفجيرات تجاوزت الجزائر لتصل إلى بلدان الجوار وإلى أوروبا، إذ رُصدت مواد مشعة في إسبانيا ومناطق أخرى.
ومن الجانب البيئي، يؤكد النص أن فرنسا اعتمدت سياسة طمر النفايات النووية في الصحراء دون حصرها أو تأمينها، بما في ذلك المعدات الملوثة والرمال الزجاجية والعربات المستخدمة في التفجيرات، وما تزال هذه المخلفات إلى اليوم في العراء، معرضة للرياح والرمال قرب مناطق مأهولة. كما يشير تقرير مكتب التقييم العلمي والتكنولوجي الفرنسي لعام 1997 إلى غياب أي بيانات دقيقة عن حجم هذه النفايات. وعلى الصعيد الإنساني، يقدّر عدد من شاركوا في التجارب أو تضرروا منها بأكثر من 150 ألف شخص، من بينهم آلاف الجزائريين الذين ظلوا بلا أي متابعة طبية أو اعتراف رسمي.
ويبرز المقترح فشل قانون موران في إنصاف الضحايا الجزائريين، إذ لم يُقدَّم سوى عدد ضئيل من ملفات التعويض من الجزائر، لم يُعترف إلا باثنين منها. كما يشير إلى أن اللجنة الجزائرية-الفرنسية المشتركة التي أُنشئت عام 2012 لم تجتمع سوى مرة واحدة دون نتائج ملموسة. ويرى النواب أن غياب الموقف الرسمي الفرنسي بشأن التجارب في الجزائر، مقابل الاعتراف الجزئي الذي قدّمه الرئيس فرانسوا هولاند سنة 2016 لضحايا بولينيزيا، يكرّس تمييزاً غير مبرر بين الضحايا ويقوّض جهود المصالحة.
لذلك، يقترح المشروع إنشاء لجنة تحقيق برلمانية تضم ثلاثين نائباً، تكون مهمتها دراسة السياسة النووية الفرنسية في الجزائر، وتحليل آثارها الصحية والبيئية والاجتماعية، والتحقيق في ظروف التعرض للإشعاع، وتقييم إخفاقات قانون موران في ضمان العدالة للضحايا الجزائريين، إضافة إلى بحث الأبعاد التاريخية والدبلوماسية لهذا الملف. ويخلص المشروع إلى أن كشف الحقيقة الكاملة يمثل خطوة أساسية نحو الاعتراف والعدالة، وإعادة بناء الثقة بين فرنسا والجزائر على أسس من الصراحة والمسؤولية المشتركة.
والمعروف أن فرنسا أجرت بين عامي 1960 و1966 ما مجموعه 17 تجربة نووية في منطقتي إن إكر ورقان في الجزائر، كانت أربع تجارب منها تفجيرات جوية بالقرب من رقان، فيما كانت 13 تجربة تحت الأرض في سلسلة جبال الهقار بالقرب من إن إكر. وكانت 30 منظمة دولية، تزامنا مع الذكرى الـ65 لأول تجربة نووية فرنسية في الصحراء الجزائرية تحت الاسم الرمزي “اليربوع الأزرق” شباط/فبراير الماضي، قد أصدرت بيانًا مشتركًا، جددت فيه مطالبتها لفرنسا بتحمل مسؤوليتها التاريخية والقانونية، ورفع السرية عن جميع الوثائق المتعلقة بهذه التجارب، والبدء في تطهير المناطق الملوثة، وتعويض الضحايا.

تعليقات الزوار
لا تعليقات