عاد الجدل حول اتفاقية 1968 الذي ينظم تنقل الجزائريين وإقامتهم في فرنسا، إلى واجهة الأحداث في الجزائر، بعد أن ظهرت أصوات تطالب بنقضه من الجانب الجزائري حتى يتم نزع هذه الورقة من اليمين المتطرف التي يوظفها في حساباته الداخلية في فرنسا.
ويأتي هذا النقاش في وقت أصبحت العلاقات الجزائرية الفرنسية، في السنوات الأخيرة، ساحة لتجاذبات مستمرة، خاصة من الجانب الفرنسي مع ارتدادات على الطرف الجزائري، إثر تصريحات ومواقف مرتبطة بملفات الهجرة التأشيرات والتعاون الأمني والذاكرة التاريخية.
وفي هذا المناخ، أكد وزير الدولة والدبلوماسي السابق عبد العزيز رحابي أن التعامل مع اتفاقية 1968 لا ينبغي أن يتم على أساس ردود فعل ظرفية، بل وفق تقدير دقيق لطبيعة المكاسب والتوازنات.
وقال رحابي إن تصريح رئيس الوزراء الفرنسي سيباستيان لوكورنو حول الاتفاقية، والذي أعلن فيه رغبته في إعادة التفاوض عليها واعتبرها “غير صالحة في كثير من النواحي”، جاء بطريقة أحادية ودون مراعاة للأعراف المتبعة بين الدول. وأوضح أن هذا التصريح يُعدّ من الناحية العملية إعلاناً مسبقاً بإلغاء الاتفاقية، حتى وإن لم تصدر خطوة رسمية بعد.
وأشار رحابي إلى أن الجزائر لم تتلق إلى الآن أي طلب رسمي لإعادة التفاوض، لكنها مستعدة للتعامل مع هذا الاحتمال إذا قُدم وفق القنوات العادية المنصوص عليها. وأضاف أن اتفاقية 1968، خلافا لما يتم تصويره، لا تمنح الجزائريين امتيازات واسعة، بل إن القانون العام الفرنسي في كثير من الحالات أكثر ملاءمة لهم من مقتضيات الاتفاقية فيما يتعلق بالإقامة والعمل والتنقل. واعتبر أن اليمين الفرنسي، خاصة اليمين المتطرف، استغل الاتفاقية لخلق حالة من التعبئة السياسية الداخلية، عبر تصوير الجزائريين كأنهم يشكلون عبئا أمنيا واقتصاديا على فرنسا، وربط وضعهم بقضايا الهجرة والبطالة وانعدام الأمن.
ولإبراز أن التوتر الحالي ليس الأول من نوعه، ذكّر رحابي بسابقة ديسمبر 1979، حين أبلغ الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان الجزائر بقرار ترحيل 35 ألف جزائري سنوياً. وقال إن الجزائر وقتها قبلت بالقرار من حيث المبدأ، وكانت مستعدة لاستقبالهم دون المطالبة بأي ضمانات سوى حفظ كرامتهم، قبل أن يتم التراجع عن هذه الإجراءات بعد خسارة ديستان الانتخابات الرئاسية سنة 1981. واعتبر رحابي أن اللحظة الحالية تشبه تلك المرحلة في كونها جزءاً من حسابات سياسية داخل فرنسا، حيث تحولت الاتفاقية إلى ورقة انتخابية. وختم بالقول إنه إذا لم تُقدم فرنسا على إلغاء الاتفاقية، فإن الجزائر قد تبادر إلى ذلك، ما سيجعل الذين استثمروا في هذه الورقة مضطرين إلى اللجوء مجدداً إلى “ريع الذاكرة” في أفق الاستحقاقات السياسية لعام 2027.
من جانبه، تناول رئيس حركة البناء الوطني عبد القادر بن قرينة الموضوع من زاوية العلاقة الثنائية. ففي بيان رسمي، قال إن الحركة أخذت علماً بتصريح لوكورنو أمام البرلمان، حيث قال الأخير إنه “لم ولن يجعل من الجزائر مسألة سياسية داخلية فرنسية”، كما تابع ما صدر عن وزير الداخلية الفرنسي لوران نونيز من تصريحات تؤكد حرصه على “استئناف الحوار” مع الجزائر. واعتبر البيان أن هذه الإشارات إيجابية وتشكل تراجعا عن الخطاب الاستفزازي الذي اتسمت به مواقف بعض أعضاء الحكومة الفرنسية السابقة، خاصة وزير الداخلية السابق برونو روتايو، الذي اتهمه البيان بتأزيم العلاقات عبر تصريحات عدائية وتحريضية مرتبطة بطموحات انتخابية وتحريض اليمين المتطرف.
وأكد بن قرينة وهو من الشخصيات الموالية للرئيس، أن الجزائر حافظت على مواقف ثابتة في مواجهة الضغوط والابتزاز، وأن المرحلة الحالية يمكن أن تكون مناسبة لتجاوز الخلافات إذا التزم الجانب الفرنسي بمبدأ الندية والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وشدد على أن الحركة ستتابع الإجراءات العملية الفرنسية للتأكد من تطابقها مع التصريحات التي وصفها بالمشجعة.
أما في فرنسا، فقد عاد ملف الاتفاقية بقوة بعد تصويت الجمعية الوطنية لصالح قرار يدعو لإلغائها، بناء على مقترح من التجمع الوطني اليميني المتطرف، بدعم محدود من بعض الكتل السياسية، وهو تصويت جاء بأغلبية صوت واحد. وعلى إثر ذلك، وجهت مارين لوبان سؤالاً مباشراً للوزير الأول لوكورنو تحت قبة البرلمان، مطالبة بوضوح في الموقف من الاتفاقية، في ظل تنامي النقاش حول الهجرة والجاليات. ورد لوكورنو مؤكداً أن “العلاقة مع الجزائر يجب أن تُبنى من جديد على أساس المصالح الفرنسية”، ودعا إلى إعادة التفاوض للوصول إلى صيغة جديدة.
وعلى الطرف الجزائري، قال وزير الخارجية أحمد عطاف إن ما حدث في البرلمان الفرنسي يبقى شأناً داخلياً، لكنه شدد في الوقت نفسه على أن إدخال العلاقات الثنائية في سياق الجدل الانتخابي الفرنسي أمر غير مناسب. وأشار إلى أن الجزائر تفضل معالجة القضايا الثنائية عبر قنوات هادئة وبعيداً عن ردود الفعل الآنية، مؤكداً أن العلاقات الدولية لا تُدار بالشعارات أو المناوشات الإعلامية.
ويأتي كل هذا في سياق أوسع مرتبط بمحاولات إعادة فتح قنوات التواصل بين البلدين بعد أشهر طويلة من القطيعة الدبلوماسية غير الرسمية. فقد استقبل الرئيس عبد المجيد تبون رسالة تهنئة من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في ذكرى أول نوفمبر، كما تحدثت مصادر فرنسية عن إمكانية عقد لقاء بينهما خلال قمة دولية مقبلة، في حال توفرت الظروف السياسية اللازمة.
كما كشف وزير الداخلية الفرنسي لوران نونيز عن تلقيه دعوة رسمية لزيارة الجزائر، في خطوة اعتبرها مؤشراً على بداية استئناف التنسيق الأمني بعد فترة توقفت خلالها آليات العمل المشترك بشأن ملفات الهجرة غير النظامية والترحيل والتعاون الاستخباراتي.
وتشير هذه التطورات إلى أن اتفاقية 1968 لم تعد مجرد نص قانوني يتعلق بإقامة وتنقل الأفراد، بل أصبحت مادة للصراع السياسي ومسار العلاقات بين البلدين الذي يبقى، مفتوحا على إمكانات التهدئة أو التصعيد.

تعليقات الزوار
لا تعليقات