في صباحٍ بارد على سكك الحديد البريطانية، كان القطار يسير كعادته نحو وجهة مجهولة، يحمل الناس بين العمل والمواعيد المؤجلة والأحلام الصغيرة التي لا تتسع إلا داخل النوافذ. لم يكن أحد يدري أن ذلك اليوم سينقش في ذاكرة البلاد بحبر من شجاعة جزائرية اسمها سمير زيتوني.
كان سمير، الرجل الأربعيني ذو الملامح الهادئة، يمارس عمله اليومي في شركة السكك الحديدية. لا شيء يوحي أن في انتظاره قدراً استثنائياً. يرتّب الأبواب، يبتسم للمسافرين، يلوّح للأطفال الذين يندهشون من القطارات، لكنّ القدر لا يطرق الأبواب، هو يدخل فجأة، كما دخل ذلك الرجل المسلح بسكين حاد، يلوح به في العربة مثل ظل خرج لتوه من جوف كابوس. ارتفعت الصرخات. تراجع الركاب نحو المقاعد الخلفية، البعض أجهش بالبكاء، والبعض تجمّد. كان الرعب يركض أسرع من القطار نفسه. في تلك اللحظة التي يفصل فيها بين الحياة والموت رمش عين، نهض سمير زيتوني. لم يكن بطل فيلم ولا جندياً مدرباً. كان مجرد عامل بسيط يعرف أن الإنسانية لا تحتاج إلى سلاح، إنما إلى قلب لا يعرف التراجع. تقدّم بخطوات حاسمة نحو المهاجم، لا يصرخ، لا يطلب المساعدة. فقط كان يمشي بشجاعة… السكين يلمع، والقطار يهتز، والأعين تتسمر على رجل واحد يقف في وجه الجحيم. حاول المسلح الطعن، لكن سمير اعترض طريقه، كأن جسده حائط أقامه القدر ليحمي البقية. اشتبك معه بيديه العاريتين، حتى غلبه وأوقعه أرضاً. لحظات قصيرة كانت كافية لإنقاذ عشرات الأرواح. حين سقط سمير مضرجاً بدمه، لم يكن يدري أن العالم في الخارج سيتداول اسمه ليحصد شهرة واسعة في دقائق معدودة.
تقول الشركة في بيانها إن سمير تصرّف بشجاعة استثنائية، وإنهم يفخرون به كرمز لإنسانيتهم. لكن الحقيقة أعمق من الكلمات الرسمية. لأن البطولة لا تقاس بما تقوله البيانات، هي تقاس فقط بما يفعله الإنسان في اللحظة التي يتلاشى فيها الأمل. في المستشفى يرقد سمير الآن. يفتح عينيه بصعوبة، يسمع صوته في الأخبار ولا يصدّق أنه أصبح «الخبر». حوله أسرته، أصدقاؤه، وزملاؤه الذين بكوا حين علموا أنه كان وحده في مواجهة الموت. ترسل له الجالية الجزائرية الورود، وتكتب الصحف البريطانية عن «الرجل الذي أوقف القطار».
في الجانب الآخر من الحكاية، كان هناك من حاول أن يسرق النور من بطولته. أصوات اليمين المتطرف راحت توظف الحادثة في خطاب الكراهية ضد المهاجرين، كأنها تحاول أن تطفئ حقيقة أن المهاجر هو من أنقذ مواطنيهم من المجزرة. لكن البطولة أبلغ من الضجيج. فالحقائق البسيطة لا تموت: جزائري أنقذ بريطانيين من الموت، وعلّمهم أن الشجاعة لا تعرف الجنسية.
ربما لم يكن سمير يفكر في كل هذا حين تصرّف. لم يسأل نفسه إن كان سيكرَّم، لم ينتظر كاميرات أو تصفيقاً. كان يرى أمامه خطراً، فتحرك. وفي تلك البساطة تكمن أعظم الحكايات وهي حين يتحوّل الإنسان العادي إلى معجزة صغيرة من ضوء.
في عالم متخم بالخوف، جاء فعله كتذكيرٍ بأن البطولة ليست فعلاً خارقاً. إنها وببساطة فعل صادق… صادق فقط!
سمير، بوجهه الأسمر وجرحه المفتوح، صار مرآة يرى فيها العالم وجه المهاجر الحقيقي، ذاك الذي يبني، يحمي، ويقف في وجه الظلام حين يهرب الجميع. ربما حين يعود إلى عمله بعد الشفاء، سيسير على السكة نفسها، ينظر إلى المقاعد نفسها التي أنقذ ركابها، ويبتسم. سيعرف حينها أن الحياة أحياناً تمنحنا فرصة واحدة لنكون كما يجب. إنسانيين حتى العظم.
وفي كل مرة سيمر فيها القطار على ذلك الخط، ستظل الريح تهمس باسمه:
سلام على الرجل الذي أوقف القطار،
على اليد التي نزفت كي تبقى القلوب نابضة،
على الغريب الذي صار وطناً للجميع.
في صحراء العدل الميتة
في عمق الصحراء، حيث تمتد الرمال مثل صفحةٍ بلا ذاكرة، وتهبّ الريح كأنها تحاول محو ما كتب على وجه الأرض، هناك سجن اسمه «سديه تيمن».. اسم يبدو كأنه نبت في قاموس الشيطان. بين جدرانه المعدنية الملتصقة بحرارة النقب، تتكدّس الأجساد الفلسطينية عارية إلا من الخوف، وتذوب الكرامة في شمس لا تعرف الرحمة.
منذ سنوات، بقي هذا المكان خارج خرائط الوعي، مغلّفاً بالصمت والإنكار. إلى أن تسلّل الضوء من ثغرة صغيرة، ثغرة أحدثتها امرأة من داخل المؤسسة نفسها، امرأة كان يفترض أن تكون لسان القانون وسيف العدالة، فإذا بها تدان لأنها تجرأت على النظر في عين الجريمة.
اسمها يفعات تومر يروشالمي، المدّعية العسكرية التي لم تحتمل أن تكون العدالة خرساء. رأت بعينيها شريطاً مصوّرًا يفضح مشهداً من الجحيم: جنود ينهالون ضرباً على معتقل فلسطيني مكبّل اليدين في سجن «سديه تيمن». رأت الرعب، الدم، والإنسان يختزل إلى صرخة. ولم تستطع أن تصمت.
لكن في دولة اعتادت أن تضع القانون في قفص، لا يعاقب الجلاد، إنما من يفضحه. سجنت يروشالمي نفسها، واتهمت بإساءة استعمال المنصب وعرقلة سير العدالة لأنها سربت ما كان يجب أن يدفن في ظلام السجلات العسكرية. حاولت الهرب، لاحقتها الشرطة، وها هي اليوم تواجه محكمة في وطن يحاكم من يصر على أن يرى.
انتشر الفيديو كالنار في هشيم الصمت. العالم رأى ما كان الفلسطينيون يقولونه منذ عقود.. رجال عراة يساقون في شاحنات عسكرية كأنهم أشياء. أجساد ممدّدة على الأرض في صفوف منتظمة، كأنهم سجناء زمن خرج من التاريخ. يضربون، يهانون، يحرمون من العلاج، وتستخدم ضدهم أبشع أدوات القمع حتى العنف الجنسي كوسيلة لتدمير ما تبقى من إنسانيتهم.
منظماتٌ حقوقية كـ»بتسيلم» و»هيومن رايتس ووتش» رفعت الصوت، لكن الصوت يرتد في صحراء العدل الميتة. في تلك الصحراء، لا يسمع أحد أحداً. فكل شيء هناك مدجن بالإنكار.
خرجت مظاهرات داخل إسرائيل نفسها، وخلف الأسوار، كان هناك من يحتضر. من يختفي. من يعذّب فقط لأنه ولد فلسطينياً. أمّا في الخارج، فكانت الشمس تواصل سطوعها كأن شيئاً لم يكن.
حين اعتقلت يروشالمي، هاجمها السياسيون، ووصفتها أصوات اليمين المتطرّف بالخائنة، بينما نصّب الجنود المعتدون «أبطالاً». هكذا يتحوّل الحق في تلك الأرض إلى جرم، والجرم إلى وسام عسكري. كانت تقول في مرافعتها القصيرة: «لم أُرد سوى أن أُعيد للعدالة وجهها الإنساني»، فكان الرد أن طردت من معبد العدالة نفسها. ليست «سديه تيمن» حادثة استثنائية، كما تؤكد التقارير. إنها مجرد فصل من نظام كامل قائم على القمع، من السجن المفتوح في غزة إلى الزنازين المظلمة في النقب. كأن فلسطين خلقت لتكون مختبراً للعنف، وميداناً تجرَّب فيه حدود الصبر الإنساني.
في صور الفيديو المسرب، لا تظهر الوجوه بوضوح، فالكاميرا بعيدة. لكنك ترى كل شيء. ترى معنى أن تكون إنساناً في زمن يقتل فيه الإنسان مرتين.. مرة بالرصاص، ومرة بالنسيان.
ربما كانت يروشالمي، من حيث لا تدري، آخر شاهد داخل الجدار. امرأة وقفت ضد جيشها، فانهال عليها العالم الذي كانت تحاول إنقاذه. ورغم ذلك، ما زال في قصتها بصيص أمل.. أن الحقيقة، وإن سجنت، قادرة على الهروب، أن الضوء، وإن حوصر، يعرف طريقه إلى الصحراء.
في النهاية، سيبقى «سديه تيمن» رمزاً لعصر يحاكم فيه الصدق ويكافأ فيه القتل.
مريم مشتاوي

تعليقات الزوار
لا تعليقات