أخبار عاجلة

الفساد الإعلامي والسياسي في الجزائر

تابعت مثل غيري من الجزائريين محاكمة وزيرين سابقين للإعلام، في المدة الأخيرة، من وزراء فترة حكم الرئيس بوتفليقة، تم النطق فيها على الوزير الأول جمال كعوان بثماني سنوات سجن والثاني حميد قرين بأربع سنوات. زيادة على مصادرة أموالهما، بتهمة إساءة استغلال الوظيفة، على نحو يخرق القوانين والتنظيمات من أجل منح مزايا غير مستحقة للغير، التبديد العمدي لأموال عمومية، إلى جانب منح امتيازات غير مبررة للغير بمناسبة إبرام عقد أو صفقة مع الدولة أو إحدى مؤسساتها مخالفة للأحكام التشريعية والتنظيمية.
كما جاء في الحكم الذي شمل كذلك عديد المسؤولين الإداريين من الذين مروا على رأس هياكل هذه المؤسسة التي كانت وما زالت تحتل موقعا مركزيا في المشهد الإعلامي كمانح كبير للإعلانات يحيي ويميت. عبر سياسة خلقت ساحة إعلامية مشوهة، رسخت أساليب التزلف و»الشيتة»، كما تقول الدارجة الجزائرية، وهي تتكلم عن تلك الممارسات المشينة التي عرفتها الساحة الإعلامية – السياسية وما زالت في الجزائر منذ سنوات طويلة. أهدرت حق المواطن في بناء مؤسسات إعلامية وطنية قوية وفعالة.
علما أن حكما مشابها قد مس وزيرا سابقا هو عبد القادر خمري بثماني سنوات سجن في علاقة بتسيير الوكالة الوطنية للإشهار نفسها، أثناء فترة حكم الرئيس بوتفليقة دائما التي كان يعرف كل الجزائريين أنها تحولت الى مرتع كبير لتوزيع الريع المالي العمومي، على من يستحق ولا يستحق. استفاد منه الجزائري والأجنبي في إطار سياسة كانت تهدف الى شراء ذمم الكثير من وسائل الاعلام في الداخل والخارج. تعتمد على حسابات سياسية معروفة، ينفذها المسير، لكنه لا يقررها، لم تبدأ مع الرئيس بوتفليقة بل كانت سابقة عن فترة حكمه، مارسها كل رؤساء الجزائر منذ الاستقلال، في درجات متفاوتة. تعاملت مع ريع مالي يزيد وينقص، حسب الوفرة المالية للبلد.

كما بينته حالات مشابهة في علاقة دائما بالإشهار، مست وزير الداخلية الأسبق صلاح الدين دحمون، الذي ادخل السجن بتهمة إساءة الوظيفة واستغلال النفوذ في مارس/آذار العام الماضي هو ومدير تشريفات الرئاسة في عهد بوتفليقة المتهمان مع مجموعة طويلة عريضة من رؤساء البلديات ومسؤولين إداريين في العاصمة بالتواطؤ في قضايا فساد تمت على شكل منح حصري لإعلانات اشهارية لشركة يملكها ابن شقيقة الرئيس بوتفليقة، الذي تمكن من الهروب من العدالة في الوقت المناسب أثناء فترة الحراك المضطربة.
حالات مشابهة أخرى كانت الصحافة قد تكلمت عنها في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 بمناسبة محاكمة الأمين العام السابق للمنظمة النقابية الرسمية عبد المجيد سيدي سعيد، لها علاقة هي الأخرى بالفساد في ميدان الاشهار، الذي يكون قد استفاد منه أبناء الرجل القوي في عهد بوتفليقة بطريقة غير قانونية، عبر علاقات مشبوهة مع مؤسسات عمومية كثيرة لحلب المال العام السايب، الذي تحول عن طريق هذه الممارسات من مال عام الى خاص، عبر شبكات فساد كان وما زال ينخر المؤسسات الاقتصادية والإدارية الرسمية.
تحويل للمال العام لا يتطلب من صاحب الحظوة أي استثمارات أو حتى معرفة في ميدان الإشهار وفنونه، فكل ما هو مطلوب منه الاستثمار في علاقات الأب للوصول الى معارفه وأصدقائه داخل هذا النظام الذي يتشابك فيه المال بالسياسية بشكل مريب ومربح لمن يستطيع الوصول الى مراكز القرار.
اعترف أن شعورا بعدم الارتياح، بل وربما الظلم قد انتابني مثل الكثير من الجزائريين وأنا اقرأ الاحكام المتعلقة بقضية مؤسسة الاشهار الأخيرة (كعوان – قرين) ليس بالطبع تضامنا مع هذه الوجوه السياسية، المسيرة المتهمة بالفساد التي قال القضاء الجزائري كلمته فيها، ليس من الوارد التعليق عليها هنا. في انتظار ما يمكن ان يكون كقرار نهائي على مستوى المحكمة العليا، بل لأنني أعتقد أن هناك أطرافا أخرى اختفت عن قاعة هذه المحاكمة، كان يمكن أن تقف في قفص الاتهام، كما هو حال أصحاب القرار من «المؤسسات السيادية»، كما يصفها اخواننا المصريون من الذين أعطوا الأوامر لهؤلاء المنفذين لمنح هذه الامتيازات، كما تعودوا القيام به من الخلف دون تبعات قانونية ولا سياسية. من بينهم من هو في السجن بتهم فساد أخرى في الوقت الحالي، كما هو حال الوزير المستشار أخ الرئيس بوتفليقة، الذي كان لمدة عقدين الآمر الناهي، في كل كبيرة وصغيرة تتعلق بصرف المال العام وتبديده.
دون نسيان المستفيدين المباشرين من هذه المزايا من أصحاب المشاريع الإعلامية الخاصة، التي تكلم عنها القضاء بصيغة المجهول، وهو يحاكم هذه الوجوه المسيرة التي يمكن أن تشعر – كما عبرت بشكل واضح أثناء جلسات المحاكمة أنها كانت كبش فداء لسياسة عامة لا تصنعها بل تنفذها حتى وان استفادت منها بشكل غير قانوني، كما قد يفهم من حكم القضاء. وهي على رأس مناصب لم تعد تعرف وهي على رأسها ماذا تفعل في وقتها، بعض الوزراء تحولوا الى مكونين ومحاضرين لطلبة الاعلام مفروضين عنهم عنوة بعد أن اكتشفوا أنهم لا يستطيعون أن يسيروا المؤسسات الإعلامية الكبرى التابعة للقطاع العمومي، مثل التلفزيون أو وكالة الأنباء، ومن باب أولى المؤسسات الإعلامية الخاصة التي يسيرها أصحابها.
في وقت يصر صاحب القرار على الاحتفاظ به كمنصب حكومي، يتبين يوميا بالملموس أن مبررات وجوده لم تعد قائمة كما هو حاصل في الكثير من التجارب الديمقراطية، التي اختفت فيها هذه وزارة. مما قد يفسر الموقف السلبي الذي يملكه المواطن من هذا المنصب، الذي لم يعد له ما يبرره كما بينته تجربة الجزائر نفسها، وهي تلغي هذا المنصب كما فعل رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش في 1990-91.
تجربة تحول فيها وزير الإعلام «فارغ الشغل» الى محاضر يفرض عنوة على طلبة الاعلام المساكين في المعهد الذي تخرج منه يعود الى مدرجاته كمحاضر لأنه يملك وقتا كبيرا لا يعرف ماذا يفعل به!
لنكون في الأخير أمام مشهد لا يليق بالجزائر وهي تحتفل بذكرى ثورتها في الأول من هذا الشهر، نتيجة هذا الفساد الذي ينخر المشهد الإعلامي الرسمي في الجزائر، ترك البلد من دون حماية إعلامية في الداخل والخارج، كما بينته تطورات مسألة الصحراء هذا الأسبوع بعد قرار مجلس الأمن المؤيد للموقف المغربي، كرًس التخبط الكبير الذي يعيشه الإعلام الجزائري الذي ترك بين أيدي «ذراري» من دون معرفة ولا تجربة فشلت في بناء مؤسسات إعلامية فعالة، تستطيع الدفاع عن مواقف الجزائر، همهم الوحيد الحصول على رضاء موزع الريع العمومي.

ناصر جابي

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات