في تطور مفاجئ، أعلن نقيب القضاة الجزائري العيدي عوداش تقديم استقالته رسميا من المنصب، في قرار لا زال محلّ تضارب في خلفياته، خاصة أنه يأتي في وقت يستعد فيه البرلمان الجزائري لمناقشة القانون الأساسي للقضاء خلال دورته الحالية.
وجاءت استقالة عوداش خلال اجتماع استثنائي للمكتب التنفيذي عُقد وفقًا لأحكام المادة 57 من القانون الأساسي للنقابة. وأوضح بيان صادر عن الهيئة أن أعضاء المكتب استلموا طلب الاستقالة من رئيس النقابة، وتم قبول إيداعها على أن تُعرض لاحقا على الجمعية العامة الاستثنائية للمصادقة النهائية، طبقًا للمادة 34 من القانون ذاته.
وأفاد البيان أن النائب الأول لرئيس النقابة، هشام دسدوس، سيتولى تسيير شؤون النقابة بصفة مؤقتة إلى غاية انعقاد الجمعية العامة، مع الشروع في التحضيرات اللازمة لعقدها في موعد سيُحدد لاحقًا.
وكان عوداش قد أعلن قبل يومين، نيته الانسحاب من رئاسة النقابة وترك القرار النهائي للجمعية العامة التي كانت مبرمجة في نهاية الشهر الجاري، غير أنه عاد ليقرر ترسيم استقالته بشكل فوري، دون تقديم تفاصيل حول أسباب هذا القرار، مكتفيا بإبلاغ المكتب التنفيذي.
وجاءت هذه الخطوة لتفتح الباب أمام تساؤلات كثيرة داخل الأوساط القضائية والنقابية في الجزائر حول خلفياتها، خاصة بعد تداول معطيات غير رسمية عن وجود توتر داخل المكتب التنفيذي للنقابة وتباين في المواقف بشأن طريقة تسييرها في الأشهر الأخيرة. كما تأتي في ظل قضايا أقحم فيها القضاء بشكل مباشر كانت قد شغلت الرأي العام في الفترة الأخيرة، بينها ما أثير حول رئيسة الهلال الأحمر الجزائري ابتسام حملاوي.
وتحدثت بعض المصادر النقابية عن وجود خلافات داخلية بشأن علاقة النقابة بالسلطات العمومية، وعن اتهامات متبادلة بين أعضائها حول تجاوز الصلاحيات وخلق صراعات تدخلت فيها أطراف خارجية، وهي معطيات تُتداول في كواليس النقابة دون تأكيد رسمي من أي طرف.
وفي خضم هذه التطورات، راجت تعليقات وتدوينات متباينة على مواقع التواصل الاجتماعي، أظهرت حجم الانقسام بين أنصار عوداش وخصومه. فبينما تحدث مقربون منه عن “قلة من أعضاء المكتب التنفيذي” سعت- حسب قولهم- إلى “إضعاف الهياكل الشرعية للنقابة”، اعتبر آخرون أن هناك مؤاخذات على النقيب في عدد من المسائل المتعلقة بمستقبل القضاة المهني عجّلت برحيله. وفي مقابل هذا السجال، فضّل عوداش الصمت رغم المطالبات بتوضيح موقفه.
ورغم أن توقيت الاستقالة تزامن مع اقتراب عرض مشروع القانون الأساسي للقضاء الجديد على البرلمان، ما أوحى بوجود علاقة بين الحدثين، فإن عدة مصادر أكدت أن قرار عوداش جاء نتيجة اعتبارات داخلية تخص تسيير النقابة وشؤونها التنظيمية، ولا علاقة له بمضمون القانون أو بوجود خلافات حول بعض بنوده.
ويُنتظر أن يُصدر القانون الأساسي الجديد للقضاء قبل نهاية السنة الجارية، بعدما خضع لمرحلة طويلة من المراجعة بين وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء، وهو النص الذي يتضمن المشروع أحكامًا جديدة تعيد تنظيم المسار المهني للقاضي من حيث التعيين والترقية والتنقل، وتمنح مزيدًا من الضمانات المتعلقة بالوضعية المادية والاجتماعية، من خلال تحسين نظام الأجور والمنح، وتوفير الحماية القانونية والسكن الوظيفي، إضافة إلى فتح إمكانية تمديد سن التقاعد بشروط محددة. كما يشدد على قواعد الانضباط، ويصنف الإضراب أو التحريض عليه ضمن المخالفات المهنية الخطيرة، ويوسّع من نطاق الأخطاء المهنية لتشمل حالات رفض العمل أو الإخلال بالسير العادي للمرفق القضائي، ويمنح صلاحيات تأديبية واسعة للمجلس الأعلى للقضاء، في حين يكرّس الاعتراف بالعمل النقابي ضمن ضوابط محددة لا تمسّ باستقلال العدالة.
وما يدعم ذلك، أن النقيب المستقيل كان قد عبّر في آخر ظهور إعلامي له، ضمن برنامج “يمين ويسار” على قناة “الخبر تي في” المحلية، عن دعمه الصريح للقانون الأساسي للقضاء، واصفًا إياه بأنه “خطوة مهمة نحو تعزيز استقلالية القضاء وتحسين ظروف القضاة”.
وقال في اللقاء إنه “يحبذ أن يصدر القانون الأساسي اليوم قبل غد”، في إشارة إلى استعجاله اعتماد النص الذي طال انتظاره من طرف القضاة.
وفي نفس البرنامج، تطرّق عوداش إلى عدد من القضايا القضائية المثيرة للجدل، من بينها ملف الحبس المؤقت، حيث دعا إلى ضرورة “ترشيد اللجوء إلى هذا الإجراء دون المساس بحقوق المتقاضين”، مؤكدًا أن “العدالة الجزائرية تتطور في اتجاه تكريس الضمانات القانونية وحماية الحريات الفردية”.
كما خصّص جزءًا من مداخلته للرد على الانتقادات التي وُجّهت إلى القضاء الجزائري على خلفية قضية الكاتب بوعلام صنصال، متهمًا فرنسا بـ”محاولة ابتزاز الجزائر قضائيًا وسياسيًا”، ومشددا على أن القضاء الجزائري “ليس أداة سياسية ولا وسيلة لتصفية الحسابات الإعلامية”.
وردا على سؤال حول ما إذا كانت قضايا الرأي تُحرج القضاة وتجعلهم عرضة للنقد، قال عوداش إنّ مهمة القاضي هي الفصل في النزاعات مهما كان موضوعها، وأنّ النيابة العامة تمثل سياسة الدولة من خلال تحريك الدعوى العمومية. وأضاف أنّ ما يهم في كل القضايا هو تمكين المتهمين من حقوقهم وضمان محاكمات عادلة، بصرف النظر عن طبيعة القناعات أو حساسية الموضوع.
وأبرز النقيب أنّ حرية التعبير مكفولة بالدستور ويجب احترامها، غير أنّ هناك قضايا حساسة تتعلق بالهوية الوطنية ووحدة المجتمع وسلامة الأراضي يفضل حسبه عدم إثارتها في ظروف إقليمية ودولية صعبة كالتي تمر بها الجزائر اليوم، على حد قوله.

تعليقات الزوار
لا تعليقات