أخبار عاجلة

أين يعيش المثقّف الجزائري؟

أين يعيش المثقّف الجزائري؟ هذا سؤال بسيط يحتمل إجابة بسيطة كذلك. وهي إجابة تتعلّق بتحديد المكان الذي يقيم فيه إنسان. لكنه في الجزائر يصير سؤالًا صعبًا ومعقدًا. فكلما حدّد المثقف موقعه، ومحلّ إقامته، فلن يسلم من تهم ومن شائعات. إذا كان يعيش في الدّاخل، فسوف يجري اتهامه بمحاباة جبهة سياسية على حساب أخرى، قد يجري اتهامه كذلك بخدمة الخطاب السائد، وبالانحياز إلى السلطة. وإذا كان مثقفا يعيش في الخارج فإن وضعه يصير أكثر تعقيدًا، سوف يجد نفسه متهّمًا بمحاباة جهة أجنبية على حساب الوطن، وأنه يعمل من أجل مصلحة الآخر على حساب مصالح مواطنيه. ومهما فعل المثقف الجزائري الذي يقيم في الخارج (وهو يهاجر في الغالب نظرا لأسباب العمل) فلن ينجو من اللغط ومن التّزييف. لذلك يبدو أن المكان الأمثل الذي يجدر بالمثقف أن يقيم فيه: هو النصّ. أن تجري محاكمته بناء على عمله، بناء على أداءه الفكري أو انسحابه منه. أن يُحاسب المثقف بناء على ما يكتب لا بناء على موقع إقامته. لكن هذه الإجابة على الرغم من واقعيتها فإنها لا ترضي الكثيرين. فقد انشغل بعض المثقفين، في السنين الأخيرة، في نصب محاكم افتراضية وأخرى واقعية. لا يجتمع هؤلاء المثقفون في مناقشة قضية أو في تدارس كتاب أو في الإصغاء إلى بعضهم البعض. بل تجمعهم غاية أخرى مفادها الإطاحة بمثقفين آخرين من مواطنيهم، وترويج تهم من شأنها أن تمس بحياتهم الشخصية، وهذه التّهم تتعدّد بحسب موقع إقامة المثقّف المقصود. ففي كلّ مرّة يقع فيها خلاف بين الحكومة في الجزائر مع نظيرة لها في بلد آخر، فإن لا أحد يساءل الساسة ولا رؤساء الأحزاب، لا النواب في البرلمان ولا الناشطين ولا المؤثّرين على السوشيال ميديا، بل إن الأنظار كلّها تتجه صوب المثقف الذي يقيم في الخارج. ويجد نفسه محل مساءلة: لماذا لا تصطف مع الحكومة في البلد؟ لماذا لا تخاصم البلد الذي تقيم فيه انحيازا للحكومة في بلدك؟ لماذا تزور بلدا في خصومة مع السلطة في الجزائر؟ وهي أسئلة أو مساءلات أو محاكمات لا بدّ أن تعرّض كلّ واحد من المثقفين الذين يقيمون في الخارج إلى جملة من الإساءات، ويضطر إلى تبريره مواقفه إزاء الذين يقيمون في الدّاخل. يجد المثقف الجزائري في الخارج نفسه يتحمّل ما لا يطيق.

رأي المثقف

يصير مذنبًا رغم أنه لم يفعل شيئًا يحتمل النّدم. مع العلم أن الساسة لا يستشيرون رأي المثقف، سواء من الدّاخل أو من الخارج، في حال اتّخاذ موقف أو قرار، لا يعيرون اهتماما بالمثقفين. وهذا المثقف نفسه لا يبالي به أحد عندما يصدر كتبًا، لا يكلّف أحد نفسه عناء اقتناء الكتاب ومطالعته، وعندما يدلي بتصريح فإن الآخرين لن يبالوا بمناقشته أو التعاطي معه في الرّأي أو الردّ، وعندما يمرض هذا المثقف فلن يسعفه أحد، عندما يفقر جيبه كذلك سوف يجد نفسه وحيدا ومعزولا، لكن عندما تندلع زوبعة سياسية، فلا بدّ أن يتحمّل تبعاتها. يصير في مرمى النيران كلها، ولا بدّ أن يتخذ موقفا مطابقة لموقف الحكومة وإلا سوف يوصف الخيانة والعمالة. إذا دافع المثقف عن حريته (ذلك ما يحصل في الغالب) فسوف يصير منبوذًا. هكذا هو حال المثقفين الجزائريين في الخارج، يعيشون على بوصلة زملاء لهم من الدّاخل، يتحمّلون ذنبا لم يقترفوه، ويصيرون غير مرغوب فيهم في أعين رفاقهم في الدّاخل، بحجة أنهم لم يتخذوا موقفًا في شأن يخص السيّاسة لا الأدب أو الثّقافة. فالمثقف في الداخل يريد من نظيره الذي ينجح، والذي يهاجر، يريد منه أن يظل حبيس الداخل، يريد من المثقف الجزائري الذي يعيش في باريس أو روما أو نيويورك أن يفكّر مثل مثقف يعيش بين حانات الجزائر العاصمة.

تاريخ الثّقافة الجزائرية

في خضم المحاكمات التي يتعرّض لها المثقف الجزائري المقيم في الخارج، من طرف نظرائه في الدّاخل، تغيب حقيقة عن الأبصار، مفادها أن تاريخ الثقافة في الجزائر صنعه المثقفون في الخارج لا في الداّخل. وأن أهم المثقفين عاشوا خلف الحدود وليس في الدّاخل. وتلك حقيقة تتكرّس منذ الاستقلال، منذ محمّد ديب إلى محمد أركون، وكذلك علي الكنز أو مالك شبل. لأن قدر المثقف الجزائري أن يعيش في الشتات. وهذه الهجرة بقدر ما تنطوي عليه من ألم وقسوة فإنها تحتمل كذلك نقاط مضيئة. لأن النّظر إلى البلاد من الخارج يتيح رؤية أوضح وأكثر صفاء، عكس النّظر إليها من الدّاخل. فكلما ابتعدنا عن الجزائر زاد التّعلق بها. وكلما اتسعت المسافة عنها اتسعت الفكرة كذلك وتتحوّل البلاد إلى مادة في التأمل وفي الخوض في الرأي وفي الرأي البديل.
كلما ابتعدنا عنها تتعمق مناقشة الذات، وتعتدل النظرة إلى ماضيها وحاضرها فتصير نظرة محايدة، كما أن الابتعاد يسمح له باستشراف مستقبلها. من جهة أخرى، فإن البقاء في الداخل ورغم ما له من حسنات فله من العيوب كذلك. لا سيما في ظلّ التجاذبات السياسية، فكلّما انقلبت كفّة السياسة فلا بد أن يصير المثقف في مواجهة النقد أو التجريم. قد يجد نفسه متورطا مع جبهة ضد أخرى، كما أن البقاء في الداخل يحتم عليه مسايرة المزاج العام، بما يقتضيه من رقابة على الفكرة أو رقابة ذاتية، ولن يتيح له هامشا كاف من التفكير والنقد. فغالبية المثقفين في الداخل يتبنون مواقف متشابهة فيما بينهما، كأنهم جوقة واحدة، ولا يخرج أحد منهم من الصف، خشية على سمعته. وهذا الواقع يجعل من حياة المثقف مشروطة، يصطف في خانة ردة الفعل لا أن يكون مبادرا إلى صناعة الفعل. يضطر إلى مسايرة الخطابات المهيمنة، مدافعا عن الآراء المسيطرة لا مدافعا عن رأيه. وفي ظل هذه التعقيدات، يصير صوت المثقف في الدّاخل خافتا، لا مقدرة له على التغيير، وبدل أن يدافع على حقه من أجل توسيع النظر إلى ما يجري من وقائع، بدل أن يدافع عن هامش أوسع من الحرية، يفضل مثقّف الدّاخل مطاردة زميل له اضطرته ظروف للهجرة، يطارده بالشائعات، لأن المثقف في الخارج يتمتع بحرية تفكير أكبر من نظيره في الدّاخل.

سعيد خطيبي

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات