قبل خمسين عاماً، انطلقت جموع المغاربة خلف قائدهم الحسن الثاني في مسيرةٍ خضراء صنعت مجد الوطن ووحّدت ترابه. واليوم، وبعد نصف قرن، نجد أنفسنا أمام مسيرةٍ ثانية يقودها الملك محمد السادس، لا بالجرافات والأعلام هذه المرة، بل بدبلوماسيةٍ هادئة ورؤيةٍ استراتيجية بعيدة المدى، تتقدّم بثبات نحو لحظة الحسم التاريخي لقضية الصحراء المغربية.
من الدفاع إلى المبادرة
لقد استطاع الملك محمد السادس، منذ اعتلائه العرش، أن يُحوِّل قضية الصحراء من ملفٍّ دفاعيٍّ يفرض على المغرب التبرير المستمر، إلى مشروعٍ وطنيٍّ استباقيٍّ يُقدِّم الحل ويقود النقاش الدولي.
لم يعد المغرب يكتفي بردود الفعل، بل أصبح صانع المبادرات وصاحب الإطار المرجعي الوحيد المعترف به دولياً: مبادرة الحكم الذاتي، التي وُصفت بالأممية والعقلانية والجدية.
هذه النقلة ليست مجرد تحوّل في الخطاب، بل هي تحوّل في فلسفة الدولة المغربية نفسها: من الدفاع عن الأرض إلى بناء نموذجٍ على الأرض، ومن انتظار الحل إلى صناعة الحل، ومن الصحراء كقضية إلى الصحراء كقوة.
تميّزت الدبلوماسية الملكية المغربية خلال العقدين الأخيرين بهدوئها وثباتها وعمقها الاستراتيجي، فبينما كانت أطراف النزاع تُراكم الخطابات، كان الملك يُراكم الحقائق على الأرض:
أوراش تنموية كبرى في العيون والداخلة جعلت من الأقاليم الجنوبية منصةً قاريةً للتنمية والاستثمار.
انخراط إفريقي متجدد أعاد للمغرب مكانته الطبيعية داخل الاتحاد الإفريقي.
شراكات دولية وازنة جعلت من الموقف المغربي مرجعاً في العواصم الكبرى.
هذه الدبلوماسية الملكية ليست انفعاليةً ولا عاطفية، بل تقوم على فن التراكم الهادئ، حيث كل خطوةٍ محسوبة، وكل موقفٍ مبنيٌّ على رؤيةٍ استراتيجية.
إنها دبلوماسية ترفض الصخب وتؤمن بأن النجاح في السياسة الخارجية لا يُقاس بالضجيج، بل بالنتائج.
قرار مجلس الأمن الأخير: لحظة التتويج
الخطاب الملكي الأخير بمناسبة الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء جاء ليؤرّخ لمرحلةٍ جديدة: ما قبل قرار مجلس الأمن وما بعده.
لقد اعترف المنتظم الدولي، بوضوحٍ غير مسبوق، بأن الحكم الذاتي هو الحل الوحيد الواقعي.
وبذلك، لم يعد المغرب في موقع المدافع، بل في موقع المنتصر المشروع، الذي يملك الشرعية القانونية والسياسية والتنموية.
هذا الاعتراف لم يكن صدفة، بل ثمرةَ عشرين سنةٍ من دبلوماسيةٍ ملكيةٍ متأنيةٍ وصبورة، جعلت من الموقف المغربي رصيداً دولياً، ومن رؤية الملك مرجعاً للأمم المتحدة نفسها.
البعد الإنساني والسياسي في رؤية الملك
في لحظة النصر، لم يتحدث الملك بلغة المنتصر.
لم يكن الخطاب خطاب تحدٍّ، بل خطاب مسؤوليةٍ وإنسانيةٍ ووطنيةٍ جامعة.
وجّه جلالته نداءً صادقاً إلى إخواننا المحتجزين في مخيمات تندوف، داعياً إياهم إلى العودة إلى الوطن الأم بكرامةٍ وطمأنينة، مؤكداً أن “جميع المغاربة سواسية في الحقوق والواجبات”.
بهذه الروح السامية، يثبت الملك أن الدبلوماسية المغربية ليست انتقاماً بل بناء، وليست غلبةً بل مصالحةً وطنيةً كبرى.
من مغربية الصحراء إلى مغربية المستقبل
في عمق الخطاب الملكي، لا يلوح فقط طيّ صفحة نزاعٍ طال أمده، بل بداية كتابة فصلٍ جديدٍ من التاريخ المغربي؛ فالصحراء لم تعد “قضية تُدار”، بل قاطرة وطنٍ يُبنى، ومختبراً لنموذجٍ جهويٍّ متطورٍ يعيد تعريف مفهوم الوحدة الترابية في القرن الحادي والعشرين.
من الداخلة إلى العيون، ومن طنجة إلى الكويرة، تتشكّل خريطةٌ جديدة للمغرب:
مغربٌ واثق، متوازن، يسير نحو المستقبل بخطى ملكٍ يعرف أين يقود شعبه، ومتى يعلن النصر، وكيف يحوّله إلى مسؤولية.
نصر الدبلوماسية الهادئة
إن النصر المغربي اليوم ليس نصرًا عسكريًا ولا ظرفيًا، بل نصرٌ دبلوماسيٌّ استراتيجيٌّ هادئ، تحقق بفضل وضوح الرؤية الملكية، وذكاء التموقع الدولي، وصلابة الجبهة الداخلية.
لقد نجح الملك محمد السادس في أن يجعل من الصحراء المغربية نقطة التقاءٍ لكل مكونات الأمة، وأن يحوّلها إلى جسرٍ بين إفريقيا وأوروبا، وإلى عنوانٍ لمغربٍ جديدٍ يؤمن بقوته الهادئة وثقته الراسخة.
وبين المسيرة الأولى التي حررت الأرض، والمسيرة الثانية التي تحسم الشرعية، تتجسّد عبقرية الملك محمد السادس: قائدٌ يكتب التاريخ بهدوء، ويمضي بالمغرب في رحلة النصر المستمر.
سعيد التمسماني

تعليقات الزوار
لا تعليقات