يعيش المشهد السياسي الموريتاني على وقع جدل واسع حول إمكانية فتح مأمورية ثالثة أمام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، في خضم نقاشات متباينة بين من يراه ضمانة للاستقرار السياسي الذي تحتاجه موريتانيا في الظرف الحالي، ومن يعتبره تهديداً لمكتسبات التناوب السلمي وتراجعاً عن مسار التحول الديمقراطي الذي بدأ يترسخ في البلاد وسط تساؤلات عن مآلات كل ذلك وانعكاساته على مستقبل التجربة الديمقراطية الوطنية.
ومع أن الرئيس الغزواني يخوض حالياً مأمورية رئاسية هي الأخيرة لكنها في بدايتها، فإن هذا السجال يكتسب زخماً بسبب ما يراه البعض “أنه ضرورة التحضير المبكر للاستحقاقات المقبلة المقررة عام 2029”.
وانطلق هذا الجدل إثر حلقة حديثة من برنامج “صالون الصحافة” على قناة “تي تي في”، فجّر خلالها الصحافي حنفي ولد دهاه نقاشاً واسعاً حين دعا إلى تمكين الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني من ولاية ثالثة، مشترطاً أن تتم هذه الخطوة ضمن حوار وطني شامل يقود إلى فترة انتقالية تبدأ بعد انتهاء المأمورية الحالية، وتُفضي إلى إقامة دولة مؤسسات حقيقية، وإصلاح دستوري عميق، وحرب شاملة على الفساد، ليكون تداول السلطة بعد ذلك سهلاً وميسوراً، حسب رأيه. ولم تمض ساعات على هذه الدعوة حتى دخل المحامي والدبلوماسي السابق السالك ولد اباه على الخط، مؤكداً أن “تمكين الغزواني من مأمورية ثالثة يجب أن يُفهم في سياق رؤية وطنية تهدف إلى تعزيز الاستقرار ومواجهة التحديات، لا بدوافع ظرفية أو شخصية”.
وأوضح “أن الدستور، رغم تحصينه لمواد المأموريات الرئاسية، يظل قابلاً للتطوير عبر آليات استفتاء شعبي أو تعديل برلماني بأغلبية خاصة، متى اقتضت المصلحة العليا للبلاد القيام بذلك”.
وأثارت تدوينات ولد اباه وتدخلات ولد دهاه عاصفة من الجدل على شبكات التواصل الاجتماعي: فبينما أيّد بعض المدونين التمديد معتبرين أن مشروع غزواني الإصلاحي يستحق الاستمرار، رفض آخرون الأمر بشدة، ورأوا فيه تمهيداً لتعديل دستوري يمس بجوهر التداول الديمقراطي على السلطة. وتساءل منتقدون: كيف يُطرح الحديث عن ولاية ثالثة في وقت لم يحقق فيه الرئيس – حسب قولهم – مجمل وعوده الانتخابية التي تعهد بها منذ 2019؟
ورغم ما يقوله عنه خصومه، فمنذ انتخابه سنة 2019، وإعادة انتخابه في 2024 بنسبة 56.12٪، حافظ الغزواني على استقرار نادر في منطقة الساحل التي عصفت بها الانقلابات العسكرية والاضطرابات الأمنية.
فمنذ 2011 لم تسجل موريتانيا أي هجوم إرهابي، على خلاف جارتيها مالي والنيجر، كما حققت البلاد نسب نمو معتبرة، رغم استمرار التحديات المتمثلة في الفقر، البطالة، وهجرة الشباب. غير أن الانتخابات الأخيرة أظهرت توترات سياسية ملحوظة، حيث رفض المرشح بيرام الداه اعبيد الاعتراف بالنتائج، واتهم اللجنة الانتخابية بالتحيز، ما كشف هشاشة التوافق السياسي الداخلي.
وينص الدستور الموريتاني على تحديد مأموريتين فقط للرئيس، مع تحصين هذه المواد، لكن النقاشات التي أثارها المحامي ولد اباه تتعلق بإمكانية فتح باب المراجعة عبر آليات استثنائية إذا ما وُجد توافق وطني.
وتحدث المتابعون لهذا الملف عن بلدان إفريقية عدة شهدت مراحل انتقالية حساسة ومددت لرؤسائها استناداً إلى المصلحة العليا، لكن ذلك كان في الغالب مثيراً للجدل، وقد تحول أحياناً لأزمات سياسية عاصفة.
ويرى الإعلامي البارز ولد دهاه أن أي نقاش حول مأمورية ثالثة يجب أن ينبثق من حوار وطني شامل، يشارك فيه الطيف السياسي والمدني كله.
ويقترح ولد دهاه أن تُفضي هذه المرحلة إلى برلمان فاعل وقضاء مستقل وأجهزة أمنية مهنية، مع إصلاحات دستورية تضع ضوابط للسلطة التنفيذية، وإطلاق حرب فعلية ضد الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة.
وترى المعارضة الموريتانية أن مجرد طرح مأمورية ثالثة يمثّل تهديداً للمسار الديمقراطي الفتي، كما أنها تذكّر بتجارب الربيع العربي التي أظهرت أن محاولات تمديد ولايات الرؤساء قادت في الغالب إلى انفجارات اجتماعية وانقلابات سياسية. وأكدت المعارضة “أن التمسك بمبدأ التداول السلمي على السلطة هو الضمانة الوحيدة لعدم العودة إلى الاستبداد”.
وتشير الأدبيات السياسية إلى أن الانتقال الديمقراطي عملية معقدة، غير مستقرة، ومرشحة للانتكاس، فتجارب تونس ومصر والسودان إضافة إلى تجربة موريتانيا نفسها في 2005-2007 ، أكدت أن نجاح أي انتقال يتوقف على التوافق، وقوة المؤسسات، والبعد عن الشخصنة.
وتضع دعوة ولد دهاه وولد اباه موريتانيا أمام سؤال جوهري: هل يمكن الحفاظ على الاستقرار عبر ولاية ثالثة للرئيس الغزواني، أم إن احترام النصوص الدستورية وتداول السلطة هو صمام الأمان؟
بين هذين الخيارين، يبقى الحوار الوطني الشامل الذي حدد ولد دهاه شروطه، المدخل الأكثر واقعية لتجنب الانقسام، وضمان انتقال ديمقراطي متدرج، يحافظ على استقرار الدولة ويكرّس التداول السلمي للسلطة.
فموريتانيا اليوم تقف عند مفترق طرق، والقرارات التي ستُتخذ في الشهور المقبلة بعد الحوار المنتظر، ستحدد وجهة البلاد لسنوات قادمة، بين تكريس الاستثناء الديمقراطي في الساحل، أو الانزلاق إلى دوامة الأزمات التي عصفت بجاراتها.
ويذكر في هذا المضمار أن تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم العربي شهدت مسارات ونهايات متباينة، تراوحت بين النجاح النسبي والإخفاق السريع.
ففي تونس، خلال الفترة ما بين 2011 و2014، تمكنت النخب السياسية من صياغة دستور ديمقراطي وإجراء انتخابات حرة، غير أن المسار تعثر لاحقاً بسبب الأزمات الاقتصادية الحادة وتنامي نفوذ التيارات الإسلامية. أما في مصر، فقد أفضت انتفاضة 2011 إلى انتخابات رئاسية وتشريعية، لكن الانقسام المجتمعي وصعود الجيش مجدداً أنهيا التجربة خلال فترة وجيزة، لتعود البلاد إلى الحكم الاستبدادي.
وفي السودان، مثّل عام 1985 لحظة انتقالية حينما سُلّمت السلطة إلى حكومة مدنية بعد انتفاضة شعبية، إلا أن التجربة لم تعمّر طويلاً، إذ أطاح انقلاب عسكري بالمسار الديمقراطي بعد ثلاث سنوات فقط. موريتانيا بدورها خاضت محاولة انتقال ديمقراطي بين 2005 و2007 عقب الإطاحة بنظام معاوية ولد الطايع، لكنها انهارت سريعاً إثر انقلاب 2008 الذي أعاد الجيش إلى الواجهة السياسية.
جدل حول إمكانية ولاية ثالثة للرئيس الموريتاني ولد الشيخ الغزواني

تعليقات الزوار
لا تعليقات