الشهر الجاري هو شهر الحفلة السنوية التي تقيمها الأمم المتحدة قي مقرها الرئيسي في نيويورك وتُسمّيها الجمعية العامة السنوية.
في هذه الحفلة التي تأخذ زخما عالميا في النصف الثاني من الشهر، يلتقي قادة العالم والوزراء والأمراء والمستشارون وكبار مسؤولي المنظمات الدولية والإقليمية للحديث في قضايا عالمية يحاولون إقناع العالم بأنها في صالح البشرية، لكنها في الواقع لا تُغيّر شيئا من مآسي العالم. بل إنه بعد كل جمعية عامة تغرق الأمم المتحدة أكثر في العجز والفشل والتخلي عن الناس الذين يحتاجونها، وينحدر العالم نحو مزيد من البؤس والحروب والأزمات. أنظر إلى غزة والسودان وأفغانستان وهايتي وإفريقيا وحتى أوروبا. أنظر إلى الخوف وغياب الشعور بالأمان الذي يستبد بالناس عبر العالم، بمترفيه وفقرائه، بشعوب الدول المصنّفة قوية وشعوب الدول المسحوقة.
لكن يجب افتراض حسن النية، والإقرار بأن الخطأ ليس خطأ الأمم المتحدة، وبأن مسؤولي الأمم المتحدة هم أول من يعترف بالشلل وأكثر من يصرخ من ألم الشعور بالعجز. وهم يؤكدون يوميا، أكثر من غيرهم، أنهم مجرّدون من أدوات النفوذ والتأثير إلا الرجاء والتمني، أو التنديد والاحتجاج.
مسؤولية الإخفاق المزمن تقع على عاتق منظومة عمل الأمم المتحدة وطريقة تسييرها وتوزيع الأدوار فيها منذ لحظة تأسيسها. ثم على الدول الكبرى التي تتحكم في آليات عمل الأمم المتحدة وتتعمد تجاهل أيَّ نقاش حول الحاجة لإصلاح هذه المنظمة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان. وتمتد مسؤولية شلل الأمم المتحدة إلى دول جنوب الكرة الأرضية التي ترى الإخفاق والظلم ولا تفعل شيئا رغم أنها هي الضحية الأولى دائما.
شعار حفلة هذا العام جميل: «بالعمل معا نحقق الأفضل.. 80 عاما وأكثر من أجل السلام والتنمية وحقوق الإنسان». لكن مشكلة هذا الشعار الرومنسي البرّاق أنه على تناقض صارخ مع الواقع، تناقض يجعلك تسأل مَن اختار الشعار ومَن وافق عليه! فمن نافلة القول إن الذكرى السنوية الثمانين من الأكثر مأساوية في تاريخ الأمم المتحدة، إذ تحل عليها وهي في وضع غير مسبوق من السوء والعجز. تحل الذكرى الثمانون وآخر شيء ينعم به العالم هو السلام، وأول شيء يحتاجه هو التنمية، وأكبر أكذوبة يعيشها هي حقوق الإنسان. تحل الذكرى السنوية والعالم على شفير حرب عالمية ثالثة سببها الكبار وضحاياها الصغار.
من الغريب أن تجد الأمم المتحدة وسط هذا الجنون مساحة لترف الحديث عن السلام والتنمية وحقوق الإنسان.
وما يجعل الذكرى الثمانين استثنائية في سجلات الأمم المتحدة أنها تتزامن مع قرار أمريكي يمنع قادة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية من حضور الحفلة السنوية للأمم المتحدة. لا يذكر تاريخ الأمم المتحدة أن جمعيتها السنوية تلطخت بقرار كهذا. هناك سابقة في الأسابيع التي تلت إعلان ميلاد دولة فلسطين في الجزائر سنة 1988. في تلك السنة رفضت الولايات المتحدة منح الراحل ياسر عرفات ووفده تأشيرات دخول للمشاركة في الجمعية العامة الثالثة والأربعين. لكن الأمم المتحدة كانت في وضع يسمح لها بابتكار الحلول والبدائل فتصرفت ونقلت اجتماعات الجمعية العامة إلى جنيف. وشاركت فيها دولة فلسطين ونالت الاعتراف الدولي ولقيت ما تستحق من ترحاب وتكريم.
ورغم بشاعة القرار الأمريكي وعنصريته بحق الحضور الفلسطيني في 2025، لم تجرؤ الأمم المتحدة على تجاوز الإدارة الأمريكية كما فعلت في 1988، لأن الأمر اليوم ليس مكان انعقاد الجمعية العامة بقدر ما هو موضوعها ومشاركة فلسطين فيها حتى لو عقدت اجتماعاتها في المريخ.
هنا خطورة القرار الأمريكي على مستقبل الأمم المتحدة.. أن اختارت الإدارة الأمريكية أن تضع وزارة خارجيتها في خدمة دولة مارقة تسمى إسرائيل وتقوم بدور الوكيل عنها. من الطبيعي أن تستغل إسرائيل هذا السخاء إلى أبعد الحدود وتملي على الخارجية الأمريكية ما تقرر وتقول في الموضوع الفلسطيني، فصدر قرار وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو بمنع دخول الوفد الفلسطيني وكأن وزير خارجية إسرائيل هو الذي صاغه بيده. واستسلمت الأمم المتحدة لقرار روبيو من دون نقاش خوفا من العقوبات ومن الانتقام، خصوصا أنها قد جرّبت القليل من ذلك مع العقوبات الأمريكية التي طالت مدّعي عام المحكمة الجنائية الدولية وقضاتها.
الخطورة الأخرى في التصرف الأمريكي تتجاوز محمود عباس وفلسطين أو أي رئيس دولة آخر، ولا تكمن في غياب عباس وممثلي منظمة التحرير عن الجمعية العامة الثمانين. واقع الحال ألّا فرق بين غياب هؤلاء وحضورهم، فغالبا كان عباس سيلقي خطابا تقليديا في قاعة نصف فارغة وحضور يتثاءب ثم يتذكر واجب التصفيق فيصفّق، ويعود عباس إلى مقعده ليستأنف طقوس التثاؤب مع المتثائبين. الخطورة في السوابق التي ستتكرس في المستقبل. يبدو أن دبلوماسية العصا والعقوبات التجارية التي ينتهجها ترامب أتت أُكلها وأثمرت دبلوماسية التأشيرات.
بمنع الوفد الفلسطيني من الحضور إلى نيويورك سنَّـت الإدارة الأمريكية سابقة خطيرة لا شيء سيمنع تكرارها في المستقبل، من طرف الإدارة الأمريكية أو من الدول التي تستضيف منظمات دولية. بعد الآن لا أحد سيَلوم سويسرا (تستضيف فروع الأمم المتحدة الكثيرة) والنمسا (الوكالة الدولية للطاقة ووكالات حظر الأسلحة النووية والكيمائية وغيرها) وفرنسا (اليونسكو) وهولندا (المحاكم الدولية) إذا ما قررت، لأيّ سبب، التنصل من واجبات الاستضافة ومنعت دخول مسؤولين أجانب لا يعجبونها.
الأمم المتحدة في مهب الريح. وضعها المؤسف لا يضر القوى الكبرى بقدر ما هو خطر على الدول الصغيرة والفقيرة التي إذا لم تتحرك بسرعة لإصلاح حال المنظمة الدولية سيتحوّل العالم إلى غابة من الوحوش.. وقد بدأ يتحول.
توفيق رباحي
تعليقات الزوار
لا تعليقات