وجد الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم، عبد الرزاق مقري، نفسه في قلب عاصفة من الجدل، بعد سلسلة من المقالات والبيانات التي تتابعت بوتيرة سريعة، تهاجم مواقفه خاصة تلك التي انتقد فيها سقف الدعم للقضية الفلسطينية.
بدأت القصة بانتقادات وجهتها صحيفتا “الخبر” و”لوسوار” لمقري على خلفية حادثة وصول سبعة مراهقين جزائريين إلى السواحل الإسبانية في رحلة هجرة غير نظامية، قبل أن تتسع بسبب مقال له نشره في الأيام الأخيرة، بعنوان “التخلي عن رفع السقف في القضية الفلسطينية خوفا على المكتسبات”، وما تبعه من ردود حادة صدرت عن منظمات وطنية تولت وكالة الأنباء الجزائرية نشرها.
ففي البداية، كتب مقري منشورا علق فيه على حادثة المراهقين السبعة الذين وصلوا إلى إسبانيا عبر رحلة “هجرة غير نظامية”، واعتبر أن هذه الواقعة ستظل “عالقة في التاريخ” باعتبارها دليلا على “الوضع المتردي الذي نحن فيه”. وأضاف أنه كان يتمنى أن تخرج سفينة من الجزائر للمشاركة في “أسطول الصمود” كما حدث في دول أخرى، لكنه فوجئ بخروج “أطفال بسفينة هروبا من بلادهم”. ليختم منشوره بالقول إنه كان يعتزم كتابة مقال عن هذه الحادثة لكنه تراجع وسعى إلى سماع استنتاجات الآخرين حولها.
هذا الموقف أثار ردودا إعلامية، خصوصا من قبل صحيفتي “الخبر” و”لوسوار” اللتين نشرتا مقالات مطولة تناولت شخصية مقري ومسيرته السياسية. وجاء في هذه المقالات أن مقري استغل منذ البداية إرث مؤسس الحركة محفوظ نحناح (مؤسس حركة مجتمع السلم) لخدمة طموحاته الشخصية، متهمين إياه بالبراغماتية المفرطة والتناقض في المواقف. واعتبر المقال أن هوسه بالظهور الإعلامي غلب على نشاطه السياسي، مشيرا إلى مبادرات وصفها بـ”الاستعراضية” مثل إعلانه الإبحار نحو غزة رغم يقينه بعدم إمكان تجاوز الحواجز الإسرائيلية، مشيرا إلى أن “المهم بالنسبة له هو الصورة والانتشار الإعلامي ولو على حساب المصداقية السياسية”.
في المقابل، رد مقري على هذه الانتقادات بمنشور مختصر، حيث كتب: “من هذا الذي أوجعتُه حتى يصيبه كل هذا الألم ويصرخ بهذا العويل الشديد؟ وما الذي أوجعه بالضبط؟”، نافيا أن تكون تصريحاته الأخيرة سببا مباشرا للهجوم، ومعتبرا أن ما يقوله يردده غيره أيضا “وبأساليب أكثر تشددا”، ليطرح تساؤلات عن “ما وراء الصورة وخلف الترهات السمجة” التي تضمنتها مقالات الصحيفتين، على حد قوله.
ولم يكد الجدل يهدأ حتى بدأ السجال حول مقاله “التخلي عن رفع السقف في القضية الفلسطينية خوفا على المكتسبات”، والذي انتقد فيه ما وصفه بتهاون بعض الحركات الإسلامية في العالم العربي في نصرة القضية الفلسطينية، متهما إياها بخفض سقف الفعل الاحتجاجي للحفاظ على مكتسبات سياسية أو اجتماعية.
وأشار إلى أمثلة من المغرب والأردن والجزائر التي تحدث فيها عن عدم القدرة على التظاهر، قائلا إن هذه التوجهات تمثل “نظرية القطيع” التي تفرضها القيادات على مناضليها، معتبرا أن التخلي عن بعض أشكال النضال بدعوى الحفاظ على المكاسب يعكس “ضعف الأهلية القيادية وضيق الأفق”.
وقد استحضر المقال وقائع من السيرة النبوية، مثل صلح الحديبية وقصة أبي بصير وأبي جندل، ليستخلص منها أن العمل الفردي أو المبادرات الخارجة عن النمط القيادي قد تكون أحيانا عاملا حاسما في خدمة القضية العامة، مؤكدا أن القائد الاستراتيجي هو من يدير التوازن بين سقوف مختلفة من الأداء، لا من يجمد الحركة في مساحة واحدة. مبرزا أن المحافظة الحقيقية على المكتسبات لا تتحقق بالتنازلات، بل عبر رفع سقف النضال بما يردع الأنظمة عن التخلي عن القضية الفلسطينية.
غير أن المقال أثار ردودا واسعة، إذ أصدرت عدة منظمات وجمعيات بيانات ترفض ما اعتبرته “تشويها” للموقف الجزائري من القضية الفلسطينية. فقد أكدت المنظمة الوطنية للطلبة الأحرار أن الجزائر، قيادة وشعبا، لم تحد يوما عن دعمها المطلق لفلسطين، وأنها ظلت “صوتا حرا يرفض التطبيع ويدافع عن حق الشعب الفلسطيني”. أما المنظمة الوطنية للمساهمة في الاستشراف والتنمية المستدامة، فذكرت أن القضية الفلسطينية “أولوية الأولويات بالنسبة للشعب الجزائري ودولته”، معتبرة أن الادعاءات حول تخفيض سقف الطموحات غير مؤسسة.
كما اعتبر الاتحاد الوطني للنساء الجزائريات أن ما يتم تداوله لا يعدو أن يكون “حملة ممنهجة دنيئة تنم عن أحقاد دفينة ضد الجزائر”، على غرار ما وصفه بمحاولات سابقة لتضخيم حوادث معزولة كالهجرة غير النظامية. وذهب التكتل الطلابي الجزائري الحر إلى القول إن “الجزائر التي حررت نفسها بدماء مليون ونصف مليون شهيد ليست بحاجة إلى شهادات من الحاقدين لإثبات مكانتها”.
واللافت أن وكالة الأنباء الجزائرية، قد نشرت مقالا أوردت فيه هذه البيانات والتصريحات، لتأخذ القضية بعدا أكبر، وهو ما دفع مقري إلى التعقيب متسائلا: “ما بها وكالة الأنباء الجزائرية؟”. وأوضح أنه استعمل سابقا حقه الدستوري في نقد السلطات بشأن القضية الفلسطينية، مستشهدا بمواقفه حول منع المسيرات الشعبية والوقفات أمام السفارة الأمريكية. لكنه شدد على أن مقاله الأخير لم يكن موجها للسلطات الجزائرية، بل للحركات والأحزاب في العالم العربي، معتبرا أن وكالة الأنباء ارتكبت “خطأ مهنيا” عندما تورطت في التعليق على مقال لا يتصل بالمؤسسات الرسمية. وأضاف أن ما نشرته الوكالة جاء متزامنا مع ما اعتبره “زوبعة إعلامية” استهدفته من قبل صحيفتي “الخبر” و”لوسوار”، متسائلا عن دوافع هذا التزامن وما وصفه بـ”الخلفيات الأيديولوجية” الكامنة وراء الحملة الإعلامية، على حد وصفه.
ويعد مقري رغم أنه لا يشغل منصبا حاليا في الجزائر من الشخصيات المعارضة الحاضرة في الساحة. تولى رئاسة حركة مجتمع السلم ذات التوجه الإسلامي في فترة سابقة، وهو يترأس حالياً منتدى كوالالمبور للفكرة والحضارة. اشتهر بكتاباته ومداخلاته ذات الطابع النقدي، وبرز منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 بمواقف دعم القضية الفلسطينية، حيث دعا إلى تبني خطوات أوضح وأكثر جرأة في هذا الاتجاه. شارك في محاولات مسير بالعاصمة عقب قصف مستشفى المعمداني، وتم توقيفه من قبل السلطات قبل أن يتم الإفراج عنه. كما أشار لاحقاً إلى منعه من السفر لفترة زمنية قبل أن يُرفع عنه هذا الإجراء.
تعليقات الزوار
لا تعليقات