بدأ الوزير الأول الجزائري الجديد سيفي غريب مهامه بزيارة عمل إلى ولاية جيجل شمالي شرق البلاد، في أول نشاط رسمي له خارج العاصمة منذ تعيينه في منصبه قبل 10 أيام، وهو ما اعتبره مراقبون محاولة لكسر الجمود الذي ميز المنصب في السنوات الأخيرة حيث كانت التحركات الميدانية قليلة. وتكتسي هذه الخطوة دلالة خاصة بالنظر إلى الخلفية الاقتصادية للرجل، وإلى طبيعة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها الجزائر في المرحلة الراهنة.
وجاءت الزيارة في سياق سياسي وحكومي حساس خاصة مع قرب إعداد ميزانية العام المقبل، إذ كان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قد شدد خلال اجتماع مجلس الوزراء الأخير على ضرورة التنسيق التام بين أعضاء الحكومة لتحقيق مناعة شاملة في مختلف القطاعات، مع التركيز على الحلول العملية التي تكسب المصداقية أمام الرأي العام، وفق ما قال. كما دعا الرئيس إلى استخلاص الدروس من التجارب السابقة، والمضي قدماً فيما أثمر منها انعكاسات إيجابية على المواطنين، مؤكداً أن الجزائر لا تسير بمنطق التقشف وإنما بالتسيير الذكي لتحقيق أهداف المشروع الرئاسي.
وركزت زيارة جيجل على مشاريع اقتصادية وصناعية ذات بعد استراتيجي، إذ أكد سيفي غريب أن مهمة حكومته ستكون خدمة الشعب من خلال العمل الميداني ومتابعة المشاريع بدقة، خصوصاً تلك التي ارتبطت بملفات فساد سابقاً. ووقف الوزير الأول عند مركب سحق البذور الزيتية واستخلاص الزيوت النباتية “كتامة أغري فود”، مبرزاً أن المشروع لم تتجاوز نسبة إنجازه 20 بالمائة رغم أن التحويلات المالية المتعلقة به فاقت 60 بالمائة، وهو ما كشف حجم نهب الأموال في الماضي، في إشارة إلى مشاريع رجال الأعمال النافذين في فترة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة. وأوضح أن استرجاع المشروع تم بفضل إطارات جزائرية خالصة تمكنت من تجاوز التعقيدات التقنية، لافتاً إلى أن مؤسسة ناشئة أنجزت دراسة مقابل 6 ملايين دينار فقط، بعدما كان مكتب أجنبي يطالب بمليون دولار، ما يعكس استرجاع الثقة في الكفاءات الوطنية.
كما تابع غريب أشغال الشطر الثاني من مشروع نهائي الحاويات بميناء جن جن، حيث شدد على ضرورة استرجاع الفضاءات المتاحة لتوجيهها نحو التصدير، خصوصاً لمادة الإسمنت التي تراهن عليها الحكومة كمنتوج استراتيجي. وأعلن تخصيص 20 هكتاراً للمستثمرين الخواص من أجل إقامة صوامع تخزين موجهة للتصدير، مذكراً بأن هذا التوجه يندرج في إطار تنفيذ تعليمات رئيس الجمهورية بإنشاء مرفأ خاص بتصدير الإسمنت ومنح الأولوية للمؤسسات الجزائرية.
وأبرز الوزير الأول خلال تصريحاته أن الحكومة ستتابع عن قرب المشاريع المنجزة وتعمل على تسريع وتيرة استكمالها، بما يضمن استفادة الاقتصاد الوطني والمواطن من عائداتها. وربط بين نجاح المعرض التجاري الإفريقي الأخير الذي احتضنته الجزائر وبين انفتاح الأسواق القارية أمام المنتجات الجزائرية، مشدداً على أن المرحلة المقبلة تتطلب استغلال هذه الفرص وتوجيه الجهود نحو رفع الصادرات خارج المحروقات.
وتطرح الأرقام الاقتصادية الأخيرة تحديات خاصة أمام الحكومة الجديدة. فحسب الديوان الوطني للإحصائيات، بلغ النمو الاقتصادي في الجزائر 3,7 بالمائة سنة 2024، ليصل الناتج الداخلي الخام إلى نحو 270 مليار دولار، وهو تطور تعتبره السلطات إيجابيا ويعكس ديناميكية نسبية رغم الصعوبات. غير أن هذا النمو ارتكز بشكل أكبر على الطلب الداخلي الذي ارتفع بـ 6,9 بالمائة، في حين سجلت الصادرات تراجعاً بـ 2,4 بالمائة، وهو ما يعكس استمرار التوازن الهش للميزان التجاري.
وعلى صعيد المحروقات، تراجعت الصادرات بـ 1,9 بالمائة متأثرة بانخفاض الأسعار الدولية، بينما كان الأداء خارج المحروقات أكثر ديناميكية إذ بلغ معدل النمو 4,8 بالمائة. وشهدت قطاعات الزراعة والصناعات الغذائية والنسيج قفزات معتبرة، إذ ارتفع إنتاج الزراعة بـ 5,3 بالمائة مدعوماً بموسم فلاحي جيد، وقفزت صناعة النسيج والجلود بـ 10,3 بالمائة، فيما واصلت الصناعات الغذائية توسعها بـ 5,2 بالمائة. ورغم هذه المؤشرات، يبقى الوزن النسبي لهذه القطاعات محدوداً إذ لا تتجاوز مساهمة الصناعة خارج المحروقات 4,9 بالمائة من الناتج المحلي.
أما في مجال المبادلات الخارجية، فقد ارتفعت الواردات بـ 11,9 بالمائة سنة 2024 بعد زيادات متتالية في السنوات الماضية، بينما تراجعت الصادرات خارج المحروقات بـ 20,8 بالمائة، وهو ما يبرز تحدياً كبيراً أمام الحكومة في مجال ترقية الصادرات وتنويع مصادر الدخل. وفي المقابل، سجلت صادرات الخدمات نمواً بـ 14,3 بالمائة، لكن هذا الارتفاع لم يكن كافياً لتعويض العجز.
ويجد سيفي غريب نفسه أمام مهمة معقدة تتمثل في تجسيد هذه الرؤية الاقتصادية القائمة على تنويع الاستثمارات وزيادة الصادرات خارج المحروقات، مع الاستجابة في الوقت ذاته للضغوط الاجتماعية وتزايد المطالب المرتبطة بالقدرة الشرائية والتنمية المحلية، خاصة مع فترة الدخول الاجتماعي. ومن الواضح أن اختيار جيجل كنقطة انطلاق كان بالنظر إلى رمزية الولاية التي تحتضن مشاريع مينائية وصناعية كبرى، وذلك في محاولة من الوزير الأول ذي الخلفية التكنوقراطية البحتة، تبني نهج يحاول كسر روتين العمل الحكومي من المكاتب في العاصمة وتفعيل الحضور الميداني للوقوف على تطور المشاريع.
تعليقات الزوار
لا تعليقات