أخبار عاجلة

تصريح السفير التركي حول أحفاد كراغلة الجزائر يثير زوبعة إعلامية وسياسية

ثار تصريح السفير التركي في الجزائر محمد مجاهد كوتشوك يلماز، بشأن وجود ما بين 5 و20 بالمئة من الجزائريين من أصول تركية، جدلًا واسعًا على الساحة الإعلامية والسياسية، وأعاد إلى الواجهة النقاش القديم حول طبيعة الوجود العثماني في الجزائر، بين من يعتبره امتدادًا للخلافة الإسلامية وحماية للبلاد من الغزو الإسباني، ومن يراه استعمارًا لا يختلف عن غيره.

وقد جاء هذا الجدل بعد مقابلة مطوّلة أجراها السفير مع وكالة الأناضول التركية، بمناسبة إتمامه عامين في منصبه، قبل أن تسحب الوكالة المقطع المتعلق بأصول الجزائريين من منصاتها الإعلامية، في تأكيد على الحساسية التي أثارتها هذه التصريحات.

وورد تصريح كوتشوك يلماز الإشكالي في سياق حديثه عن عمق الروابط التاريخية والثقافية بين الجزائر وتركيا، حيث أكد أن العلاقات الثنائية تشهد مرحلة ازدهار غير مسبوقة تشمل السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع، مشيرًا إلى أن هذه العلاقات تعكس وحدة مصير وتبشر بمستقبل أوثق.

وأضاف أن الشعبين الجزائري والتركي يتشابهان في قيم الحرية والصدق والاعتزاز الوطني، وذكّر بأن كليهما قدّم تضحيات جسامًا ضد الاستعمار وانتزع استقلاله. كما توقف عند أوجه التشابه في المطبخ والأزياء والعمران بين البلدين، مستحضرًا الروابط الممتدة منذ دخول خير الدين بربروس الجزائر في القرن السادس عشر. وفي هذا السياق، كشف السفير أنّ ما بين 5 و20 بالمئة من الجزائريين يُعتقد أنهم من أصول تركية، مستدلًا بألقاب عائلية مثل صاري وقره وباروتجي وتلجي، مع الاستشهاد بالقائد أحمد باي، أحد رموز المقاومة ضد الفرنسيين في القرن التاسع عشر، والذي كان حسبه من أبناء “قول أوغلو”.

بيد أن هذه التصريحات أثارت ردود فعل قوية، خاصة من إعلاميين ومثقفين اعتبروها تدخّلًا غير مقبول في الشأن الداخلي الجزائري ومسًّا بالهوية الوطنية.

الصحافي خلاف بن حدة وصف ما قاله السفير بـ”الخطير والمتعارض مع الأعراف الدبلوماسية”، محملا المسؤولية للسلطة الجزائرية بعد الاستقلال التي تجنبت حسبه الاعتراف بأن التواجد العثماني في الجزائر طيلة ثلاثة قرون كان “استعمارًا همجيًا واحتلالًا جبانًا”.

أما الصحافي مولود حشلاف، فذهب أبعد من ذلك، حين دعا السفير إلى “لزوم حدوده” وعدم الخوض في مسائل تتعلق بأصول الجزائريين، مؤكّدًا أنه لا توجد أي دراسة علمية توثق الأعراق الغالبة في الجزائر، ومشيرًا إلى أن الأتراك أنفسهم خليط من شعوب متعددة. كما انتقد حديثه عن دعم تركيا للثورة الجزائرية بالسلاح، موضحًا أن تركيا كانت منذ 1952 عضوًا في حلف الناتو، وهو ما جعل موقفها أقرب إلى فرنسا، وأنه لا توجد وثائق أو شهادات تاريخية موثوقة تثبت تورط أنقرة في تزويد جبهة التحرير بالسلاح.

ولم يقتصر الجدل على الصحافيين، إذ شارك مدونون وناشطون في انتقاد تصريح السفير، معتبرين أنه يتناقض مع الحقائق الديموغرافية والتاريخية. المدون وهاب أكد أن الحديث عن “20 بالمئة من الجزائريين من أصول تركية” لا يستند إلى أي أساس علمي، مذكرًا بأن العثمانيين الذين استقروا في الجزائر كانوا في الغالب من الإنكشاريين ذوي الأصول البلقانية، وأن عددهم كان محدودًا ولم يترك أثرًا ديموغرافيًا يذكر. وأضاف أن الهوية الجزائرية بُنيت على عمقها الأمازيغي والانفتاح المتوسطي المتنوع، وليس على أصل أجنبي مفروض.

كما استُحضرت في خضم هذا الجدل قراءات متباينة حول حقيقة الوجود العثماني في الجزائر. بعض المعلقين اعتبروا أن العثمانيين، وإن جاؤوا بدعوة من حكام محليين لطرد الإسبان، إلا أنهم سرعان ما استأثروا بالسلطة وفرضوا الضرائب بالقوة، وأبعدوا الأهالي عن مناصب السيادة والإدارة، بل مارسوا امتيازات اجتماعية واقتصادية ميزت الأتراك والإنكشاريين والكراغلة على حساب السكان المحليين. وذهب هؤلاء إلى حد وصف الحكم العثماني بأنه لم يكن سوى استعمار جديد، انتهى بانسحابهم تاركين البلاد تواجه الاحتلال الفرنسي.

غير أن المؤرخ محند أرزقي فراد، قدّم ردًا مغايرًا، معتبرًا أنه من الخطأ إدراج العثمانيين ضمن ظاهرة الاستعمار. وأوضح أن السياق التاريخي في ذلك الزمن كان يقوم على ثنائية العالم الإسلامي والعالم المسيحي، وأن جميع الدول الإسلامية كانت تدين بالولاء للخليفة بغض النظر عن العرق والجنس. وذكّر بأن العثمانيين دخلوا الجزائر بطلب من أهلها لطرد الاحتلال الإسباني، وأنهم ساهموا في تأسيس الدولة الجزائرية الحديثة بحدودها الجغرافية الحالية تقريبًا بعد إنهاء الإمارات الضعيفة الخاضعة لنفوذ الإسبان. كما شدّد المؤرخ على أن العثمانيين لم يفرضوا لغتهم ولا مذهبهم الحنفي على الجزائريين، وأن الدول في تلك الحقبة لم تكن تُبنى على أسس قومية كما هو الحال اليوم، إذ لم تظهر الدولة القومية التركية إلا سنة 1924 مع مصطفى كمال أتاتورك. وخلص إلى أن الدولة العثمانية، مثل غيرها من كيانات ذلك الزمن، كانت ذات طابع استبدادي وشمولي، لكن ذلك لا يجعلها استعمارًا بالمعنى الحديث للكلمة.

وتتقاطع هذه القراءة، وفق فراد، مع المدرسة التاريخية الجزائرية التي يمثلها باحثون وأساتذة كبار مثل أبو القاسم سعد الله ومولاي بلحميسي وجمال ڨنان ومولود قاسم، والذين اعتبروا أن الحكم العثماني للجزائر جزء من الانتماء الإسلامي المشترك وليس استعمارًا أجنبيًا. غير أن هذا الطرح يظل محل جدل في الأوساط الإعلامية والأكاديمية، حيث يواصل معارضوه التأكيد على الطابع التسلطي لذلك الحكم وابتعاده عن مفهوم “الخلافة الحامية”.

وتطرح مسائل الهوية في الجزائر حساسية كبيرة في النقاش العام، إذ سرعان ما تثير أي إشارة إلى الأصول أو الانتماءات التاريخية جدلا واسعا بين من يتمسكون بعمق الانتماء الأمازيغي والعربي الإسلامي للشعب الجزائري، ومن يرفضون أي محاولة الإرجاع الهوية إلى أصل خارجي أو قوة أجنبية. ويظهر هذا الجدل كلما طرح موضوع الوجود العثماني أو تأثيرات الهجرات المتوسطية وغير ذلك.

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات