أخبار عاجلة

لماذا يتأخر الدخول المدرسي في الجزائر؟

لم أجد تفسير مقنعا لحد الآن، لتأخر دخول أطفالنا إلى مدارسهم بعد العطلة الطويلة التي يقضونها خارج أقسام الدراسة، بداية من شهر يونيو لتستمر كل شهر يوليو وأغسطس والجزء الأكبر من سبتمبر. حيرة تزداد وأنا استمع إلى بعض الأصدقاء من المقيمين في فرنسا، على سبيل المثال، وهم يحضرون لعودة أبنائهم للمدارس في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر. الشي نفسه، الذي لاحظته عند بعض العائلات الجزائرية المقيمة في إنكلترا التي تعمل المستحيل لكيلا يتأخر أبناؤها عن العودة إلى مدارسهم في التوقيت الفرنسي تقريبا، تجنبا للعقوبة والتوبيخ في حالة التأخير.
لنجد أن الامر لا يختلف في دول الجنوب، كما لاحظته في الدوحة القطرية، التي يعود أبناؤها لدراساتهم في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس، رغم حرارة الجو في هذا البلد الصحراوي، ليبقى أبناؤنا يتسكعون في الشوارع لغاية الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر كما هو حاصل منذ سنوات.
هذا بالنسبة للمراحل الابتدائية والثانوية من التعليم، التي تعرف انضباطا أكبر من حيث توقيت الالتحاق بالدراسة، رغم الأعداد الهائلة للطلبة المتمدرسين ـ أكثر من عشرة ملايين تلميذ – لنكون أمام كارثة حقيقية عندما يتعلق الأمر بالتعليم الجامعي الذي لا يلتحق فيه الطلبة بأقسامهم إلا في بداية نوفمبر – نعم نوفمبر وليس أكتوبر ـ قبل انطلاق الدراسة الفعلية التي لن تكون حسب تجربتي في التعليم الجامعي لأكثر من ثلاثين سنة، إلا مع بداية تهاطل أمطار الخريف. طلبة عادة ما يكونون حاضرين في الجامعات – والدقة تفترض القول إنهم حاضرون في الحدائق وممرات البنايات الجامعية وليس المكتبات وقاعات الدروس. ليبقى الغياب عن الدروس هو سيد الموقف، رغم توفر النقل المجاني والإطعام والسكن في الأحياء الجامعية، التي يحصل عليها الطالب الجزائري بالمجان طول فترة دراسته، زيادة على المنحة الدراسية مهما كانت متواضعة.
هذه الفترة الطويلة التي يقضيها التلميذ والطالب الجزائري خارج أقسام الدراسة -بكل تبعاتها على مستوى التحصيل بالنسبة للتلاميذ الصغار تحديدا – إضافة لمجموعة طويلة من الأعياد الدينية والوطنية، كعيد انطلاق ثورة التحرير وعيد الاستقلال والعيدين ـ الأضحى والفطر – والأول من محرم والمولد النبوي ويوم عاشوراء الذي تحتفل به الجزائر بالتعطيل عن العمل والدراسة كأحد مخلفات العمق الشيعي التاريخي في هذا البلد السني. وضع يقرب الجزائر من النكتة التي جاءت على لسان أحد الزملاء المصريين، الذي كان يقول عن السنة الجامعية في الجزائر، انها مجموعة من العطل والأعياد والإضرابات تتخللها بعض الدروس! وضعية يمكن تلمس آثارها في شوارعنا المكتظة بالأطفال والشباب في الليل والنهار لمدة شهور، يساعد عليها الجو اللطيف، بكل الشرور المرتبطة به كالعنف الذي يستشري وحوادث الطرق التي ترتفع وتيرتها بشكل جنوني، نتيجة كثرة تنقل العائلات. لنكون أمام تقلص واضح في الحجم الساعي المخصص للدروس والتحصيل العلمي داخل الفضاء المدرسي، تعاني منه المنظومة التعليمية في الجزائر، يظهر على شكل تدهور في المستوى التعليمي لأبنائنا، وقدراتهم الضعيفة على التنافس في سوق العمل، مهما كانت نظرتنا إلى العملية التربوية، التي تركز بعض النظريات العصرية على شموليتها لوقت الدرس واللعب والترفيه، لم تعد تقتصر فيه على حجرات الدراسة. ولم يبق من احتكار المعلم، الذي تنافسه في أداء أدواره التربوية، العائلة والوسائط الاجتماعية ووسائل الترفيه والتثقيف الأخرى التي زاد تأثيرها داخل الفضاء الحضري، الذي تحول إلى وسط بيداغوجي مفتوح من الدرجة الأولى.

أفكار تمت تجربتها في بعض الحالات الوطنية – كما حصل في دول شمال أوروبا لتعطي نتائج إيجابية لم يحصل عليها إجماع، رغم ذلك حتى الآن، ما زالت قابلة للتطور مع الوقت، تركز على مجموعة محددة من العوامل المشتركة، على رأسها تأتي مصلحة التلميذ والطالب وتفتح شخصيته، للسماح لها بالتطور المتوازن داخل وخارج المدرسة.. مدرسة تبقى مفتوحة على المجتمع بأكثر من شكل وطريقة، كما عاينته في إحدى زياراتي للسويد، التي يسمح فيها للأب والأم بإلقاء دروس على زملاء أبنائهم، تكون فرصة للتعرف على تجاربهم ومهنهم ونظرتهم للحياة، تضاهي ما يحصلون عليه في حالة الاكتفاء بالمعلم الواحد طول السنة الدراسية والكتاب المدرسي، التي بدأت بعض التجارب في العودة إليه بعد فترة هجر لصالح وسائط تعليم أكثر عصرية.. عادت لتصًر على بقائه هذه التجربة البيداغوجية الناجحة، وهي تنفتح أكثر على العالم الخارجي المتحرك بسرعة أكبر من العالم البيداغوجي ثقيل الحركة. في وقت ما زلنا في الجزائر نرفض التكيف مع المناخ المختلف بين جهات البلد الواسع – مناخ متوسطي وصحراوي وشبه صحراوي – تفرض فيه النظرة البيروقراطية السائدة دخول وخروج من العطلة في اليوم نفسه تعلق الأمر بتلاميذ غرداية أو وسط الجزائر العاصمة.
لا يقتصر الجمود والنظرة البيروقراطية على مسألة تحديد تاريخ الدخول والخروج للعطل ومدتها، بل امتد إلى المحتوى البيداغوجي الذي يعرف جمودا رهيبا، ونحن نعاين محتوى الكتاب المدرسي والشلل الذي تعاني منه مؤسسات البحث كالمعهد الوطني للبحث في التربية، الذي كان المطلوب منه مسايرة عالم البيداغوجيا في البلد الذي تنعدم فيه المجلات التربوية المتخصصة. كان يمكن أن تتحول إلى مجال لتبادل التجارب والنقاش بين أعضاء الأسرة التربوية. داخل هذه المنظومة التعليمية الرافضة لأي تنافسية، مهما كانت، كما يدل على ذلك العداء الكبير الذي تجده المدرسة الخاصة والدولية، لم يسمح لأي نقاش بيداغوجي بين الفاعلين التربويين كان يمكن أن يكون لصالح التلاميذ والمدرسة، بدل الصراعات ذات المنحى السياسي والأيديولوجي الطاغي. لنكون أمام فراغ بيداغوجي تعاني منه المنظومة التعليمية، استولت داخلها المطلبية الاقتصادية والاجتماعية بين أعضاء الأسرة التربوية، التي تأنثت وساءت ظروف عملها وأجورها، ما زاد في تبخيس مكانتها الرمزية في مجتمع متحرك يعيش تحولات من كل نوع – بمنح فيه شبه أجور لشبه مهنة. انكمشت على نفسها أيديولوجيا وفكريا وهي تقترب من التيارات الدينية المحافظة كاتجاه غالب، في مجتمع عرف بصراعاته الحادة حول المنظومة التعليمية ومن يسيطر عليها، ما زالت في حاجة إلى نقاش مجتمعي واسع ومفتوح

ناصر جابي

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات