تتجه الجزائر نحو تعديل جديد للقانون العضوي المتعلق بالأحزاب السياسية، في خطوة تعكس رغبة السلطة في إعادة هيكلة المشهد الحزبي وتقليص عدد التشكيلات السياسية، في سياق نقاش عام حول الانتقال من تعددية "عددية" إلى تعددية “فاعلة”، بما يتوافق مع التحولات التي شهدتها البلاد منذ الإصلاحات السياسية بعد 2019. وقد عبّرت المجموعة البرلمانية للأحرار في مجلس الأمة عن هذا التوجه بوضوح خلال مشاورات مع مستشار رئيس الجمهورية المكلف بالشؤون السياسية، مصطفى سايج، داعيةً إلى "عقلنة المشهد الحزبي وتعزيز قدرة الأحزاب على تأطير المجتمع وصناعة النخب".
وتستند الدعوات الداعمة لتقليص عدد الأحزاب إلى حالة ترهّل سياسي تَشكّلت منذ إقرار التعددية بعد دستور 1989. فالكثير من الأحزاب، وفق تقديرات المحلل السياسي حكيم بوغرارة (في تصريحات لصحيفة الخبر)، استغلت التعددية دون تحضير ودخلت في خطاب سياسي عنيف ومؤدلج وعنصري، كما تورط بعضها في تزوير الانتخابات وجلب المال الفاسد وبيع الترشيحات، ما ساهم في اهتزاز الثقة بين المواطن والأحزاب وزاد من عزوف الناخبين في محطات انتخابية متتالية.
ويرى هذا الاتجاه أن ترشيد عدد الأحزاب يفتح الباب أمام إصلاح سياسي أعمق ويضع حدًّا لما يصفه البعض بـ"الأحزاب الطفيلية" أو "الديكور الانتخابي"، التي لا تحضر في الساحة إلا خلال الاستحقاقات قبل أن تعود إلى الجمود التنظيمي. كما أن العديد من التشكيلات لم تستثمر محطات مفصلية مثل الحراك الشعبي أو الهامش الديمقراطي النسبي الذي توفر بعد 2019، ولم تنجح في تجديد خطابها أو قواعدها أو نخبها.
مع ذلك، تحضر مخاوف لدى فئات حزبية من أن يؤدي التقليص إلى إقصاء سياسي مقنّع، خصوصاً إذا لم تُحدد معايير موضوعية وشفافة، ما يدعو إلى وضع شروط دقيقة تتعلق بالانتشار الوطني وعدد المنخرطين والالتزام بالقوانين الداخلية والقدرة على تقديم برامج واقعية والمشاركة الفعلية في الانتخابات، ليس لإقصاء الأحزاب، بل لتحويل الحياة السياسية إلى مجال تنافسي حقيقي.
ومن منظور السلطة، يشكل تعديل قانون الأحزاب فرصة لمعالجة تراكمات مزمنة، مثل ضعف التأطير السياسي وتعددية مفرطة وغير فعالة وأحزاب لا تقوم بوظائفها الطبيعية وانفصال بين المجتمع والتنظيمات السياسية، فالمشهد الحالي يضم عشرات الأحزاب، لكن تأثير معظمها محدود أو شبه معدوم.
وفي هذا السياق، يشير أستاذ العلوم السياسية زكرياء وهبي وفق ما نقل عنه موقع 'الخبر' المحلي، إلى أن الهدف الحقيقي ليس تقليص العدد بقدر ما هو "هيكلة العمل السياسي بطريقة تسمح بإعطاء ديناميكية جديدة قائمة على أفكار نوعية وحلول ملموسة"، معتبرا أن جوهر الإصلاح يكمن في "التكوين السياسي الجدي" الذي يتيح فهم تعقيدات المشهد الداخلي والخارجي، وهو الدور الذي بات غائبًا في الكثير من الأحزاب الحالية.
ويحمل التوجه الجديد دلالات سياسية واضحة، تشمل الرغبة في استقرار أكبر عبر حصر التمثيل الحزبي في تشكيلات أكثر انضباطاً وقدرة على إنتاج مبادرات، وترتيب الساحة قبل استحقاقات 2026 حيث يُرجّح اعتماد معايير انتخابية لتحديد الأحزاب القادرة على البقاء واستكمال هندسة سياسية بدأت السلطة منذ سنوات لإعادة بناء النظام الحزبي على قواعد جديدة.
ومع ذلك، وفي ظل غياب ضمانات واضحة حول آليات التصفية، قد يُنظر إلى الخطوة بوصفها وسيلة لإعادة تشكيل الخريطة الحزبية بشكل يخدم التوازنات الحالية أو يحد من صعود أحزاب معيّنة غير مرغوب فيها سياسياً.
ولكي يكون تقليص عدد الأحزاب إصلاحًا لا تصفية سياسية، يرى خبراء ضرورة الالتزام بمعايير موضوعية معلنة تشمل الانتشار وعدد المنخرطين والنشاط الميداني والالتزام المالي والتنظيمي ومشاركة الأحزاب في الانتخابات وضمان حرية النشاط السياسي وحماية التعددية الحقيقية التي تتيح التنافس بين رؤى وبرامج وليس بين أسماء وشعارات.
وتعبّر خطوة إعادة تنظيم المشهد الحزبي في الجزائر عن رغبة في تحسين الفعالية السياسية وتعزيز الحوكمة الديمقراطية، لكنها تكشف في الوقت ذاته عن تحدّيات توازن دقيق بين ضبط الساحة ومنع الفوضى التنظيمية من جهة، وحماية التعددية السياسية من جهة أخرى.
وبين مَن يرى التقليص ضرورة وطنية لإنهاء "التضخم الحزبي"، ومَن يخشى تحوّله إلى أداة إقصاء، تبقى النتيجة مرهونة بمعايير التطبيق وجديّة الإصلاح. ومهما كانت المخرجات، فإن تعديل قانون الأحزاب سيعيد بلا شك رسم الخريطة السياسية الجزائرية لسنوات مقبلة ويفتح نقاشاً أوسع حول دور الأحزاب وعلاقتها بالدولة وقدرتها على مرافقة التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد.

تعليقات الزوار
لا تعليقات