أخبار عاجلة

كيف تحولت إلى مُدافع عن المطلب الثقافي الأمازيغي في الجزائر؟

مساري الشخصي في علاقته بالمسألة الأمازيغية يمكن أن يكون صورة ممثلة لحال الكثير من الجزائريين من جيلي، في علاقته بهذا المطلب الذي اكتشفته في مدينة الجزائر التي انتقلت إليها مع عائلتي بعد استشهاد الوالد، بُعيد استقلال البلاد في 1962. أنا ابن منطقة الأوراس- أمدوكال المعًربة منذ زمن طويل، الموجودة على السفح الجنوبي لجبل الأوراس، بين مثلث مدن مكون من بسكرة – باتنة وبوسعادة، عرفت على الدوام كمنطقة احتكاك ثقافي ولغوي بين الناطقين بالعربية والأمازيغية. في هذه الولايات الفلاحية ذات الطابع الرعوي، التي فرض على سكانها التنقل والاحتكاك كمنطقة تواصل بين مناطق الشمال والهضاب العليا، ليس في الميدان اللغوي والثقافي، بل الاقتصادي كذلك – قوافل تجارية وأسواق أسبوعية – اعتمادا على الأدوار التي قامت به حواضر المنطقة، كما كان حال بلدتي الصغيرة إمدوكال، التي حافظت على تسميتها الأمازيغية، التي تقترب من معنى الرفاق أو الأصدقاء.
بلدة تم تعريبها كفضاء سوسيو ثقافي ما زالت رغم ذلك تحتفظ بالكثير من بقايا ثقافتها الأمازيغية الأصلية الحاضرة داخل الفضاء العائلي، على شكل لباس -للمرأة خاصة ـ موسيقى وغناء، وبعض التسميات المرتبطة بالمكان وأواني الطبخ ومستلزمات المنزل، التي ما زالت متداولة ليومنا هذا، بعد اختفاء شبه كلي للغة الأصلية للمنطقة، الأمازيغية كلغة تداول يومي.

أدوار قامت بها منطقة جنوب الأوراس التي انتمى لها، على المستوى السياسي كذلك، وهي تقوم بدور الوصل أثناء ثورة التحرير بين الولاية الأولى التاريخية والولاية السادسة، زيادة على تلك الأدوار الثقافية التي قامت بها حواضرها التي كانت في اتصال مباشر بمدن الشمال كالعاصمة التي هاجرت إليها عائلتي في الأيام الأولى للاستقلال، على غرار الكثير من الأسر في اتجاه إحياء محدد داخل العاصمة – حي بلكور تحديدا ـ الذي كان فضاء تنشئتي الأول في هذه المدينة الكبيرة التي درست في مدارسها، وتعرفت فيها، مع الكثير من أبناء مناطق الجزائر الأخرى، الذين مروا بظروف عائلتي نفسها، لهذه المدينة الجديدة عليهم، حصلوا فيها على سكن ومدارس لأبنائهم ـ من منطقة القبائل والشمال القسنطيني -قبل وصولي للجامعة في منتصف سبعينيات القرن الماضي.
تعرفت على المطلب الأمازيغي في الجامعة مثل أبناء جيلي، بمن فيهم أبناء منطقة القبائل، الذين كانوا لا يتحدثون لغتهم خارج الفضاء العائلي المحدود، ويفضلون الدارجة عليها في الغالب في علاقاتهم اليومية مع أبناء الكثير من المناطق. تعرف على المطلب الامازيغي الذي كان بالنسبة لي من باب النشاط السياسي في الأوساط اليسارية، التي كانت الأقرب لقناعاتي، تميزت لغاية الاعتراف بالتعددية الحزبية بحضور كثيف داخلها لأبناء منطقة القبائل، قبل أن يتم تكوين أحزاب سياسية جديدة تبنت المطلب الأمازيغي بشكل أكثر مباشرة، كما كان الحال مع التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية – زيادة بالطبع على جبهة القوى الاشتراكية، التي استمرت في نشاطها داخل هذا الفضاء السياسي، الذي تنافس فيه العديد من التنظيمات السياسية بروافدها الجمعوية – جمعيات ثقافية وشبابية ـ فقدت فيه أحزاب سياسية أخرى بعض حضورها، كما كان حال حزب الطليعة الشيوعي، لصالح تيارات من أقصى اليسار. بعد إعادة الهيكلة التي أحدثها الإطار القانوني التعددي الجديد للخريطة الحزبية، استمرت فيه أحزاب السلطة – جبهة التحرير وأبناء التيار الإسلامي في معاداة واضحة للمطلب الأمازيغي، التي قامت بقراءة له ركزت فيها على ما اعتبر تهديد للوحدة الوطنية، كما فهمها هذا التيار المركزي اليعقوبي الذي شاخ وهو يتماهى مع بيروقراطية الدولة.
في الجزائر التي عرفت مدنها تفاعلا كبيرا مع المطلب الأمازيغي اللغوي، على أكثر من صعيد طغت عليه الجوانب السياسية، على حساب المتغيرات اللغوية التي فقدت بعضا من حضورها، نتيجة عوامل ديموغرافية كالزواج المختلط بين الجزائريين، جعل العائلة الامازيغية، من أبناء منطقة القبائل تحديدا، تفقد تعاملها اليومي مع الأمازيغية كلغة بين أبناء الجيل الحضري الأول المولود بالمدن الكبرى التي فقد الكثير من سكانها تعاملهم المباشر مع لغتهم الاصلية، وهي تعيش حالة بداية اعتراف بها من قبل السلطات العمومية.
الولادة والسكن في المدن الكبرى والاختلاط عن طريق الزواج، لم تكن العوامل الوحيدة التي كان لها تأثيرات سلبية على انتشار اللغة الأمازيغية بين الجزائريين. الهجرة داخل التراب الجزائري ونحو الخارج هي الأخرى كان لها تأثير أكيد على هذا الانتشار، لم يكن لصالح اللغة الأمازيغية دائما كما تشهده حالة الجزائر العاصمة، كأكبر مدينة أمازيغية في العالم. ومدن المناطق المتحدثة بالأمازيغية جزئيا أو كليا على غرار مدن الشاوية ـ باتنة – خنشلة كمثال، وأقصى الجنوب -تمنغاست – جانت ومدن منطقة القبائل التي شهدت ديناميكية اقتصادية زادت في تنوعها السوسيو- ديموغرافي والثقافي. كما حصل تاريخيا في الكثير من مناطق البلاد التي فقدت أواصرها اللغوية المتينة تحت تأثير هذه التحولات في وقت تميز بتبنٍ رسمي للمطلب عبرت عنه المؤسسات الرسمية للدولة الوطنية. كان فيه للنخب السياسية والثقافية من أبناء منطقة القبائل الدور الأساسي، هي المتميزة باستفادتها القصوى من التعليم والمواقع المهنية الجديدة لدى دولة الاستقلال ومؤسساتها البيروقراطية. استغلت للوصول إليه قربها من العاصمة وهجرتها المبكرة خارج منطقتها الأصلية، التي عرفت انتشارا واسعا للتعليم، لم تستفد منه مناطق ريفية أخرى في الجزائر.
إنه الإطار السوسيو- ثقافي العام بأبعاده الديموغرافية والسياسية داخل المدينة الجزائرية الكبرى والمتوسطة، التي يسكنها ثلثا الجزائريين، التي تفسر حسب وجهة النظر هذه ظهور الحركة المنادية بانفصال منطقة القبائل (الماك) في هذه اللحظة التاريخية، وهي تحاول القيام بنوع من الفرملة لهذه التحولات التي أرعبتها بعد أن تيقنت أنها ليست قادرة على مواجهتها، لا في منطقة القبائل ولا في الجزائر ولا بين جزائريي المهجر في أوروبا وأمريكا الشمالية، على غرار كندا. كما يؤكده الحضور الضعيف لهذه القوة السياسية التي استغلت لوقت قريب تأخر الطرف الرسمي في القبول بالتنوع الثقافي واللغوي في الجزائر بما تزامن معه من أحداث اخذت طابعا مأساويا في بعض المحطات كأحداث الربيع الأمازيغي.
لتبقى هذه الاتجاهات الثقيلة حاضرة في تحديد مسار المسألة الثقافية الأمازيغية في الجزائر، يمكن تعميمها على كل الحالة المغاربية التي احتلت فيها الحركة الأمازيغية بالجزائر مكانة متميزة مع اختها المغربية. يمكن أن تساعد على التقارب أكثر بين شعوب المنطقة وهي تعرف محاولات استغلال هذا المطلب للزيادة في تباعد الشعوب عكس التقارب الذي كان منتظرا. في وقت تعيش فيه النخب الرسمية على رأس الدولة المغاربية نكوصا واضحا في أداء مهامها المطلوبة منها تاريخيا في البناء المغاربي المعطل.

ناصر جابي

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات