كل عمل إبداعي يحمل وجهة نظر وآراء من قبل مؤلفه، وتكون البراعة الإبداعية في إقناع القارئ بها، ضمن بنية العمل ومتنه، وهذا في رأينا يستلزم الوقوف برؤية كلية على العمل كله، وليس فقط مقولات الشخصيات التي حملت وجهة نظر المؤلف، وإنما ننظر في مجمل الإشارات النصية والسردية، ونبحث في مدى التناغم والاتساق بين الرؤية والبنية والأسلوب والإشارات اللغوية.
وفي رواية "ماتريوشكا – أرواح من قطن" اختارت الكاتبة عائشة بنور سرد بعض الوقائع المجتزأة من تاريخ احتلال الجزائر، والذي امتد من 1830 أي منذ القرن الثامن عشر الميلادي، مرورا بوقائع تحرير الجزائر، وانتهاء إلى واقعة العشرية السوداء في مطلع التسعينات حتى مطلع الألفية الثالثة. وبوصفه نسقا (تأريخيا) استعادت فيه الكاتبة بعض الأحداث، حيث - انتقت - وأطرت بعض الشخصيات البارزة في سجل تاريخ تحرير الجزائر؛ عبر رصد مقتطفات من أحداث يومية لعالمة آثار، وعبر رحلة اليومي المعاش بما يحفل من تفاصيل خاصة تفضي بالتبعية إلى تفاصيل العامة، ومن الخاص جدا حيث أغوار الذاكرة النابضة لشخصية "كلثوم" يحدث استعادة لكثير من الأحداث العامة والتي بالطبع تضفي ظلالها على الخاصة.
- اختيار نسق التأطير (الحفر في الذاكرة الجمعية):
رواية "ماتريوشكا -أرواح من قطن"، هي بمثابة الحفر في طبقات الذاكرة الجمعية، باستخدام العجائبي، مؤطرة السرد بمكامن عالم الآثار والحفريات، واللوحات الفنية والمزارات المتحفية، بالإضافة إلى النسق التأريخي الاسترجاعي، والتوثيقي لكثير من المعالم والوقائع الخاصة بالجزائر، وهو نسق اختاره بعض الأدباء، ليس رغبة منهم في مزاحمة المؤرخين ومنافستهم في تتبع أحداث التاريخ؛ بل ساروا على ذات النهج متخذين بعض تلك الأحداث مرجعا يستندون إليه في بناء عوالمهم المتخيلَة، ولئن لم يكن التَأْريخ هو ما يطلبونه من وراء تلك الأعمال الأدبية، فإنهم يقدمون خدمات جليلة للتاريخ ولرجاله، والروائي إذ ينجز ذلك، فإنه يؤديه بوعي ودراية كاملين بما هو عليه حال قارئه/الإنسان، الذي - وإن كان ينتمي زمنيا إلى الحاضر- فإنه يظل شديد الارتباط بماضيه، رازحا تحت قيوده التي تلقي بثقلها على حياته وتفكيره.
- عتبة العنوان:
يقول لويهوك عن العنوان: "بأنه نصٌ مستقل له شروطه، يمثل عتبة أولى للنص الأدبي وعلامة تواصلية مهمة تجذب القارئ".
ويهدف العنوان إلى تقديم ملخص لمحتوى العمل وإثارة فضول القارئ، وهو نتيجة تخطيط فعّال يقوم به الكاتب حتى يجعل القارئ يبحث عن المعنى ويتتبع تشعبات النص.
ولعل أول ما نسجله على هذا العنوان هو لسانية العنوان؛ أي اختلافه في لغته عن لغة المتن الروائي، فهو لم يأت عربيا فصيحا، ولا بالدارجة الجزائرية، وإنما جاء العنوان "ماتريوشكا" إشارة إلى اسم الدمية الروسية، وهي الاسم الروسي المؤنث (ماتريونا)، وهو اسم تصغيري ويعني "الأم الصغيرة" أو "الفتاة الصغيرة"، وكلمة "ماتريونا" بدورها مشتقة من الكلمة اللاتينية "mater"، وهي الدمى الروسية المتداخلة والتي تعرف أيضا باسم "دمية التعشيش الروسية"، هذه الدمى يبلغ عددها 8 وهي بيضاوية الشكل وتنقسم إلى جزأين علوي وسفلي قابلين للانفصال والفك، وتحوي داخلها دمى أخرى لها ذات الشكل غالبا، لكن بحجم أصغر، وقد أضافت الكاتبة عنوان ملحق "أرواح من قطن" وربما هناك تعمد إضمار للمعنى وما يتعمق فيه من صفات الأمومة، وأيضا تأكيد على رهافة المغزى، حيث جاء العنوان الملحق "أرواح من قطن" إشارة إلى الرهافة.
- الغلاف:
وفضلا عن عتبة العنوان، هناك عتبات أخرى في الرواية، قد يُسعفنا الوقوف عندها في تيسير الولوج إلى عالمها الداخلي والإحالة على متنها. وهكذا تشير عتبة الغلاف واللون الذي اتُخذ له إلى بعض من مضامينها، حيث جاء الغلاف من تدرجات اللون الوردي الباهت، ويرمز اللون الوردي إلى الهدوء والرومانسية والحب الناعم، ويرتبط أيضا بالرحمة والأنوثة والبراءة، وعلى الرغم من ارتباطه بالهدوء، إلا أن درجاته تختلف؛ فالوردي الباهت قد يشعر بالاسترخاء، وهو لونٌ دأب الناس على ربطه بالعالم الأنثوي وببعض ما يتعلق به؛ من مظهر وملبس وما يتعلق بكل تلك الظواهر الأنثوية، وتطالعنا لوحة زيتية لامرأة ترتدي البني وعلى رأسها وشاح بلون مشتق من درجات البنّي، وهو علامة في علم النفس؛ إذ يرمز اللون البنّي إلى الاستقرار، والصدق، والموثوقية، والدفء، والارتباط بالطبيعة؛ إذاً فهو لون أرضي يرتبط بالشعور بالأمان والراحة، ويمثل أيضا الجدية والمسؤولية.
تتصدر المرأة الجالسة واجهة الغلاف في المنتصف، وجه امرأة متوسطة العمر، ساهمة، "شاردة الذهن" تنظر يمينا إلى مجهول، مع ثبات الملامح الجادة التي تعلو وجهها، وتحمل دمية الماتريوشكا والتي تتوسط الغلاف.
- الإسقاط النفسي:
تبدأ أحداث الرواية من لحظة تقترب قليلاً من خاتمتها، لكنها لحظة تصلح لأن توجهنا لاسترجاع الذكريات من ناحية، وتتناص مع عتبة العنوان من ناحية ثانية؛ فالرواية المعنونة بـ"ماتريوشكا-أرواح من قطن" في بدايتها الفعلية تسرد حديثا داخليا بين الأنا الظاهرة والأنا الكامنة؛ فمن منّا لا يحادث نفسه، يسأل وتردّ عليه بمنطقية مخالفة لما يقتنع به، وتشير عليه بعكس ما ينوي فعله، من منّا ليس يملك نسخا أخرى داخلية لذاته، تجري معه حوارا كامنا -داخليا- أليس هذا بقريب من تداخل دمى الماتريوشكا؟
- طبقات من الحكايا:
وعبر الحفر في الذاكرة، تنجلي طبقة من الحكاية، وتُكشط طبقة أخرى، وهكذا، حيث تتجاور الحكايات مثل دمى متعاقبة، وكل حكاية تخلّف حكاية أصغر، وتحوي سرّاً بهوة أوسع من ذي قبل، وبين المعارك والمنافي القاسية والباردة، وبين الحفريات والجماجم العائدة إلى مرقدها الطبيعي، تهيم الأرواح حول "كلثوم" وعائلتها الصغيرة؛ تكشف عن صدمة زوجها "خالد" وفقده للذاكرة ونسيانه لها، وأزمة عمّها، وميراث أمّها من الحزن، وكذلك فقد أختها لابنها الشاب، وعن محاولاتها لتخطي شيخوختها المبكرة وحزنها الرابض بصدرها.
- الحبكة:
الحبكة في مجملها أخاذة وبسيطة؛ فهي لم تستخدم تقنية الاسترجاع، أو حتى انتقلت زمنيا، بل استعاضت عن استخدام تقنيات الحبكة المتعددة بالسرد، وأعني هنا السرد التوثيقي والوصفي لكثير من معالم الجزائر الأثرية، المتاحف، الأبنية، المنشآت، الكباري، المدن الساحلية والشواطيء، والمزارات الأثرية.
- نواة الحبكة هي تضارب المشاعر:
أما عن "نواة الحبكة الرئيسية" بالرواية، فكانت هي المشاعر المتضاربة في شخصية "كلثوم"، فهذه المفارقة العجيبة بين مشاعر الحب المختلطة هي ما تصنع للرواية دافعها القوي للمضي نحو الأحداث، ولنتذكّر دائما أنّ الأعمال الروائية تدور حول "عدم التحقق"، أو بتعبير ميخائيل باختين: "من لا يتطابق أبداً مع نفسه، لا يجوز أن تطبق عليه صيغة المطابقة: س = س…"
وقد أبدعت الكاتبة في بيان تناقضات شخصية "كلثوم"، ونلاحظ هنا التسمية للشخصية بـ "كلثوم" وهي إشارة أو كناية عن غناء أم كلثوم وبالأخص "الآهات"؛ فشخصية "كلثوم" تعيش عالما باطنيا، تنتظر أن تعود الذاكرة لزوجها الذي أول ما اختار لاوعيه هو حذف وجودها، وسعيها لطرق مجاله وتذكيره بطرق ووسائل عديدة، كما أنها تعتبره ملكية خاصة بها (ونلاحظ في تسجيل الزمن هنا مرور أكثر من 20 عاما على حالها تلك فـ"خالد" فقد والديه وأصيب بفقد الذاكرة منذ التسعينات!) تقول "كلثوم" لذاتها ص 168:
"وتغيرت الأماكن يا كلثوم، وفاضت الأرواح إلى بارئها. البيت فارغ، والصدى يملأ أرجاءه، جلست قرب شجرة التين...، في هذا المكان أعيش بذاكرتي ووجداني، ينتابني القلق والحنين إلى خالد بن يحي من حين لآخر بعد انقطاع أخباره"
وتفترض أفعال مجازية، هذا غير صفة (جلد الذات)، والتشبث بدور الأم الذي تمارسه على الجميع، حتى على فتاة وشاب على أعتاب مغارة تاريخية، ويزوران معلماً سياحياً، وهام خيالها في أحداث كثيرة وتخيلت خطرا محدقاً بالفتاة، وهمّت بالتدخل لولا وجود ابنة العم التي استعادتها من تجديفها النفسي، تحادث "كلثوم" نفسها ص156:
"في الحقيقة، لم أكن متسامحة مع نفسي، أو بالأحرى أشياء كثيرة أثارتها تلك الفوضى في داخلي، ولم أدر لماذا أصررت على تسميتها فوضى".
- من هموم الشخصيات إلى هموم الوطن:
تتخذ الرواية في بنيتها السردية منعطفا آخر مغايرا، وتخرج عن ذوات الشخصيات إلى هموم الوطن، وفي أسلوب يجمع بين بساطة الوصف والتعبير، ودقة التصوير، وعمق التحليل لما يحدث للشخصية، فـ"كلثوم" طوال الرواية لم تحصل على سعادتها، ولم تجدها، حتى بعدما يمضي الوقت، وتكتشف أنها لم تكن تحب "خالد" لذات شخصه، بل كان هو الأمل المتبقي لها في كونها امرأة -مرغوبة- وحتى مع مرور أكثر من عشرين عاما، مقارنة بكونه أول من تعلق به فؤادها، فهي تكتشف فيما بعد أنه لم يكن حباً ناضجاً بالمعنى الحقيقي. لقد رسمت لنا الكاتبة حدود الصراع الداخلي لشخصية "كلثوم"، والتقلبات التي حدثت لها.
- صناديق الحياة وعرائس الذكرى:
هناك الكثير من الحكايات لم تُحكَ بعد، وهي تربض داخل صناديق الحياة، مثل العرائس القطنية الناعمة -النابضة- والتي يتم طيها زمنيا ومكانيا..
أفاضت عائشة بنور في وصف الملاجئ والحرب والقتل والموت والحياة، وكأنها تقول للمتلقي أن المسارات المعطوبة قد لا تجد تفسيرا مباشرا لها في حيوات الشخوص، لكنها تتجلى بشكل واضح في أنماط المجتمعات التي بنتها وأدارتها تلك الأنظمة التي تولت إدارة الأمور، وهشمت أحلام الشعوب.
إن الكاتبة لا تستقصي كيف هدأت الأحوال في الجزائر، ولا تمضي لما هو أبعد من استجلاب مقتطفات من بعض أحداث حقبة الاستعمار الفرنسي وإظهار توابعه في الشأن الجزائري، وكأن عائشة بنور تدخر لنا رواية أخرى ستكمل فيها مشوار التأريخ للجزائر في مطلع الألفية الثالثة، ونحن نخبرها بأننا في توق إلى مزيد من تلك الجواهر المكنونة.


تعليقات الزوار
لا تعليقات