تشهد العاصمة الفرنسية باريس حراكًا سياسيًا ليبيًا لافتًا، مع وصول نائب رئيس المجلس الرئاسي، عبد الله اللافي، ورئيس مجلس النواب المستشار، عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، محمد تكالة، في زيارة متزامنة تعكس تصاعد وتيرة المشاورات الدولية حول مآلات الأزمة الليبية، في لحظة سياسية دقيقة تتقاطع فيها المبادرات الأممية مع مساعٍ أوروبية لإعادة دفع العملية السياسية المتعثرة.
وأعلنت السفارة الليبية في باريس إشرافها على تنسيق ومتابعة كافة الترتيبات التنظيمية والبروتوكولية للزيارة، بما يضمن حسن سير برنامج اللقاءات، في مؤشر على الطابع الرسمي والمنسق للتحركات الجارية، والتي تأتي في سياق متصل مع ما شهدته الأسابيع الماضية من تفعيل لمسار «الحوار المهيكل» برعاية الأمم المتحدة، بوصفه الإطار الأوسع لمحاولة كسر الجمود السياسي.
في هذا السياق، عقد عبد الله اللافي لقاءً مع المبعوث الفرنسي إلى ليبيا بول سولير في قصر الإليزيه، تناول العلاقات الثنائية وآفاق تطويرها، إلى جانب بحث الدور الفرنسي في دعم المسار السياسي، والتحديات الأمنية والسياسية المرتبطة بتطورات الوضع الليبي. وشدد اللافي على أهمية دعم التقاربات بين الأطراف الليبية، وتهيئة مناخ توافقي يقود إلى حل سياسي شامل يفضي إلى انتخابات وطنية جامعة، باعتبارها المخرج الوحيد من حالة الانقسام المزمنة.
وتأتي هذه اللقاءات امتدادًا لمسار سياسي كانت بعثة الأمم المتحدة قد أعادت إحياءه عبر إطلاق «الحوار المهيكل»، الذي جمع طيفًا واسعًا من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، في محاولة لتجاوز منطق الترتيبات الجزئية، وربط المسارات التشريعية والتنفيذية بخارطة طريق متكاملة، تستند إلى التوافق بدل فرض الأمر الواقع.
وأجرى رئيس المجلس الأعلى للدولة، محمد تكالة، سلسلة لقاءات في مجلس الشيوخ الفرنسي، ناقش خلالها مع كبار المسؤولين الفرنسيين مجمل الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية في ليبيا، وسبل دعم الاستقرار وتعزيز مؤسسات الدولة. وركزت المباحثات على آليات إنجاح خريطة الطريق التي أعلنتها المبعوثة الأممية، في انسجام مع ما ورد في تقارير الأمين العام للأمم المتحدة الأخيرة بشأن ضرورة تهيئة شروط توافق وطني شامل قبل المضي في أي استحقاقات انتخابية.
وتعكس هذه اللقاءات محاولة دولية لإعادة تجميع خيوط العملية السياسية ضمن إطار واحد، بعد سنوات من المسارات المتوازية التي عمّقت الانقسام بين المؤسسات، وأنتجت حكومات متنافسة وشرعيات متنازعة، وهو ما سبق أن حذرت منه تقاريرنا، خاصة مع فشل محاولات فرض حلول تقنية دون غطاء سياسي توافقي. في موازاة ذلك، واصل رئيس مجلس النواب عقيلة صالح لقاءاته في باريس، حيث أجرى مشاورات مع رئيسة الجمعية الوطنية الفرنسية ورئيس مجلس الشيوخ، إضافة إلى المبعوث الخاص للرئيس الفرنسي إلى ليبيا. وأكدت السفارة الفرنسية أن هذه المحادثات جدّدت التزام باريس بدعم حل سياسي دائم يقوده الليبيون وبالتعاون مع الأمم المتحدة، مع التشديد على ضرورة إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة.
وتأتي زيارة عقيلة صالح في وقت يشهد فيه الملف التشريعي الليبي ضغوطًا متزايدة، سواء من داخل الحوار المهيكل أو من خارجه، لإعادة النظر في القوانين الانتخابية، وربطها بسلة تفاهمات أوسع تشمل السلطة التنفيذية وتوحيد المؤسسات، بدل الاكتفاء بتعديلات جزئية أثبتت محدوديتها.
ويلاحظ أن الحراك الفرنسي الحالي يتقاطع مع توجه أوروبي أوسع لإعادة الانخراط في الملف الليبي، بعد سنوات من التراجع النسبي، في ظل إدراك متزايد بأن استمرار الانقسام يفاقم المخاطر الأمنية والهجرة غير النظامية، ويقوض الاستقرار في جنوب المتوسط.
وفي هذا الإطار، تحاول باريس تقديم نفسها كجسر داعم للمسار الأممي، وليس كبديل عنه، عبر تشجيع الأطراف الليبية على الانخراط الجاد في الحوار المهيكل، وربط الدعم الدولي بمدى التقدم في مسار التوافق، وهو ما يشكل تحولًا نسبيًا عن مقاربات سابقة اتسمت بالانتقائية.
وبينما لا تزال نتائج هذه التحركات مرهونة بمدى استعداد الأطراف الليبية لتقديم تنازلات متبادلة، فإن تزامن زيارات اللافي وصالح وتكالة إلى باريس يعكس إدراكًا متزايدًا بأن المرحلة الحالية قد تكون الفرصة الأخيرة لإعادة توحيد المسار السياسي، قبل الانزلاق مجددًا إلى دوامة المبادرات المتنافسة.
ويظل السؤال المفتوح، مرتبطًا بقدرة الحوار المهيكل وخريطة الطريق الأممية على الانتقال من إطار النقاش إلى التنفيذ، في ظل توازنات داخلية معقدة، وضغوط إقليمية ودولية متشابكة، تجعل من كل تحرك سياسي جزءًا من معادلة أوسع لإعادة صياغة مستقبل ليبيا.
تحركات ليبية في باريس تعيد تفعيل المسار السياسي وسط رهان دولي على الحوار

تعليقات الزوار
لا تعليقات