أخبار عاجلة

الجزائر تفشل في تعطيل إدراج القفطان المغربي ضمن قائمة التراث غير المادي باليونسكو

لم يكن ما جرى، داخل قاعة اجتماعات لجنة التراث غير المادي باليونسكو، التي تعقد دورتها العشرين في نيودلهي، بالهند، في الفترة من 8 إلى 13 دجنبر الجاري، مجرد اختلاف تقني حول ترتيب بنود جدول الأعمال، بل كان مواجهة دبلوماسية مكشوفة حاولت فيها الجزائر فرض أمر واقع رمزي على حساب المغرب قبل أن تصطدم بجدار المساطر وتكتشف أن ما أُعدّ على أساس مناورة استباقية دقيقة انتهى إلى ارتباك علني وتراجع موثّق داخل محضر رسمي.

وخلال جلسة "اليونسكو"، بالأمس، الإثنين، كما هو الحال اليوم، الثلاثاء، دخل الوفد الجزائري وهو يحمل رهانه الأكبر المرتبط بكسر التسلسل الطبيعي للنقاشات وفرض الأمر الواقع حول التصويت على مقترحين يتعلقان بتعديل تسمية عنصرين مسجلين سلفا عبر إدخال كلمة "قفطان"، في محاولة لمنح الانطباع بأن الجزائر سجّلت القفطان باسمها قبل المغرب، أو على الأقل فتحت الباب قسرا لتسجيل مشترك يُفرَّغ المسعى المغربي من رمزيته السيادية.

حاولت الجزائر تقديم طلب تعديل ملف سابق وضعته سنة 2012 لبعض مكوناتها لإدخال إسم القفطان قبل ان ريناقش غدا بإسم المغرب،، وهي المحاولة التي رفضتها اليونيكسو.

لكن بالرجوع إلى الوثائق الرسمية والصور الصادرة عن موقع اليونسكو، يتبيّن بوضوح أن الملف المغربي كان مدرجا ضمن البند السابع، الخاص بملفات الترشيح الجديدة، وهو ترتيب دقيق لا يقبل القفز ولا التأويل، وهذا المعطى كان جوهريا في حسابات الجزائر، التي حاولت بكل ثقلها الدبلوماسي أن تسبق مناقشة هذا البند بتمرير مقترحيها، في عملية التفاف على التسلسل الإجرائي، والهدف هو خلق وضع رمزي متقدّم يضع المغرب في موقع الدفاع بدل المبادرة، ويمهّد لاحقا لاتهامه بـ"سرقة التراث" إذا ما خرج ملفه منفردا في اتجاه المصادقة.

غير أن المكتب التنفيذي للجنة، الذي يفترض فيه أن يكون الضامن لاحترام القواعد، لم يتجاوب مع هذا المنطق وأصرّ كما تُظهر الصور المعلّمة بالوثائق الرسمية، والفيديوهات المتعلقة بالاجتماع على احترام الجدول الزمني كما هو، أولا مناقشة البند السابع  ثم البند الثامن، وبعد ذلك فقط يمكن النظر في الطلب الجزائري وهو القرار الذي بدا إجرائيا في شكله، كان في عمقه ردّا سياسيا صريحا على محاولة فرض الاستثناء بالقوة.

هنا بالضبط، انفجر المشهد الذي يكشف حجم الارتباك الجزائري، ففي اللحظة الأولى، تعامل الوفد الجزائري مع قرار المكتب بنبرة تحدٍّ واضحة، وكأنه كان يراهن على أن جزءا من الدول الأعضاء سيعمل على كسر هذا القرار أو على الأقل فرض نقاش موازٍ يفتح الباب أمام التصويت، غير أن ما جرى داخل القاعة جاء في الاتجاه المعاكس تماما لما توقّعه الوفد.

فالمكتب اعتمد قراره بالإجماع، دون أي انقسام، كما أن الدول التي تدخلت داخل اللجنة لم تترك للجزائر سوى هامش ضيق جدا للمناورة. بنغلاديش والإمارات دعمتا التوجه الذي ينسجم عمليا مع المسار الذي يحمي الملف المغربي من القفز عليه، وإسبانيا اشترطت أن أي تصويت محتمل لا يمكن أن يتم إلا بطريقة سرية، وهو الموقف نفسه الذي عبّرت عنه نيجيريا وإثيوبيا. وفي لحظات قليلة وجدت الجزائر نفسها معزولة إجرائيا، ومحاصرة سياسيا وفاقدة لأهم ورقة كانت تراهن عليها وهي كسر التوافق داخل المكتب.

هذا التحول المفاجئ في ميزان القوة دفع الوفد الجزائري إلى خطوة غير مسبوقة في سياق الجلسة إذ طلب إيقاف الأشغال من أجل العودة إلى التشاور مع المركز في الجزائر، فكان اعترافا ضمنيا بأن المخطط لم يكن معدّا على أساس احتمال الرفض الجماعي، وأن الوفد دخل الجلسة وهو يتوقع أن تمرّ مناورة التصويت بسلاسة أو على الأقل أن تفتح نقاشا مريحا له داخل القاعة، لكن حين سقط هذا الرهان دفعة واحدة، لم يجد أمامه سوى الرجوع إلى الخلف بحثا عن مخرج سياسي يحفظ الحد الأدنى من السيطرة على الصورة.

عودة الوفد الجزائري إلى القاعة بعد التشاور حملت علامة التحول الأوضح، فبعد أن واجه المكتب في البداية بنبرة اعتراض عاد بعد دقائق فقط ليقول أمام الأعضاء إنه "يمثل دولة مسؤولة وتحترم قرارات المكتب"، في جملة تختزل حجم التراجع الذي فُرض عليه فيما لم يعد الحديث عن تصويت مستعجل ولا عن أحقية كسر الجدولة، بل عن احترام القرار الذي كان يُرفض قبل لحظات وبهذا المشهد، انتهت أول محاولة جزائرية لإرباك مسار ملف القفطان ليس عبر هزيمة تصويتية فقط، بل عبر سقوط تكتيك الاستعجال نفسه.

سياسيا، تكشف هذه الواقعة أن الجزائر تتحرك بمنطق السبق القسري الذي يقوم على خلق انطباع دولي زائف مفاده أنها سبقت المغرب إلى تسجيل القفطان أو على الأقل أنها فتحت معركة التسجيل المشترك قبل أن يُعرض الملف المغربي، فيما الرهان لم يكن ثقافيا بقدر ما كان رمزيا وسياديا لأن القفطان في هذا السياق يتجاوز كونه مجرد لباس تقليدي بل هو عنوان لهوية وطنية مغربية متجذرة منذ قرون وتسجيله باسم المغرب داخل اليونسكو يعني تثبيت هذا المعطى دوليا خارج منطق المزايدات والمناورات.

وما حدث اليوم يعني، عمليا أن المغرب نجح في إفشال مخطط جزائري في هذا الملف وهو مخطط فرض برمجة التصويت على المقترحين خارج ترتيب جدول الأعمال وهذه الهزيمة الإجرائية على بساطتها الظاهرية، تحمل دلالات ثقيلة لأنها تثبت أن معركة القفطان لن تُدار بمنطق الالتفاف السريع، بل بمنطق الملفات الثقيلة والحجج التقنية والتاريخية والمعايير الصارمة التي تفرضها اليونسكو.

وتكشف هذه الجولة أيضا أن الجزائر كانت تعوّل على لعب ورقة الزمن، أي استغلال لحظة وجود الملف المغربي داخل جدول الأعمال للدفع بورقة التعديل قبلها، لكن حين فشل هذا الدفع تحوّل الزمن نفسه إلى عبء عليها، واضطرت إلى القبول بأن يُناقش ملفها بعد مرور نقاش البند السابع أي بعد أن يُعرض الملف المغربي على أنظار اللجنة في موقعه الطبيعي.

الأخطر في هذه الواقعة ليس فقط فشل المناورة، بل سقوط الخطاب الذي كان يُهيَّأ في الخلفية فلو مرّ التصويت كما كانت تطمح الجزائر، لكان بالإمكان تسويق رواية مفادها أن القفطان دخل سجلها قبل المغرب أو أن المغرب رفض "التسجيل المشترك" وهو ما كان سيُستعمل لاحقا كسلاح سياسي وإعلامي في معركة "سرقة التراث" غير أن ما وقع اليوم قطع الطريق على هذا السيناريو من أساسه، وأعاد الصراع إلى مربعه القانوني الصرف.

في المحصلة، خرجت الجزائر بخسارة سياسية موثقة فقد فشلت في فرض توقيتها وفشلت في فرض تصويتها وفشلت في خلق صورة السبق، واضطرت في النهاية إلى التسليم بقرار المكتب الذي كانت تعترض عليه، وإلى تبرير هذا التسليم بخطاب "الدولة المسؤولة".

 أما المغرب، فقد خرج من هذه الجولة وقد ثبّت أهم مكسب تكتيكي في هذا الموسم من الصراع وهي حماية مسار ملفه من أي التباس إجرائي وإبقاء مناقشة القفطان داخل مساره الطبيعي حيث لا تنفع المناورات ولا يُحسم شيء إلا بالحجج والملفات الثقيلة.

وفي هذا الإطار، قال محمد البرنوصي الباحث مختص في الثقافة المادية والتراث المادي إن الحديث عن القفطان في السياق المغربي يتجاوز نتحدث كونه قطعة لباس عابرة أو عن شكل زخرفي متداول، بل نظام تاريخي متكامل تشكّل داخل الدولة المغربية نفسها.

وأوضح البرنوصي في حديثه لـ "الصحيفة" أن القفطان في المغرب يرتبط منذ القرن الخامس عشر على الأقل بورشات القصر السلطاني، وبنظام "المخزن" باعتباره منتجا للرمزية، حيث لم يكن القفطان يُخاط فقط للزينة، بل باعتباره لباس السيادة والرتبة الاجتماعية والتموقع داخل هرم السلطة، وهذا ما توضحه وثائق البلاط السعدي ثم العلوي لاحقا، حيث كان القفطان يُمنح كهبة سلطانية، ويُرتدى في طقوس البيعة والاستقبالات الكبرى، والمواسم الدينية والرسمية.

وأبرز المتحدث، أن الأهم أن القفطان المغربي لم يولد من مجرد تقاطع ثقافات عام، بل من تفاعل تاريخي خاص بالمجال المغربي بين التأثير الأندلسي الذي حملته الهجرات الكبرى بعد سقوط الأندلس وبين الحرف المحلية التي كانت راسخة في مدن مثل فاس ومراكش وسلا وتطوان وهذه المدن لم تكن مراكز خياطة فقط، بل مختبرات إنتاج للهوية الجمالية للمغرب، حيث تطورت تقنيات "السفيفة" و"الراندة" و"المعلم" و"التنبات اليدوي" كعلامات فارقة لا توجد بنفس البنية التقنية والرمزية خارج المجال المغربي.

ومن الناحية الأنتروبولوجية، أشار الخبير إلى أن القفطان في المغرب هو وثيقة اجتماعية تُقرأ من خلالها التحولات الطبقية وأنماط العيش، وموازين الجمال وحتى العلاقات بين المركز والهوامش فطريقة لبسه، ألوانه، عدد قطعه، ونوعية تطريزه كلها عناصر كانت تحدد الانتماء المجالي والمكانة الاجتماعية، من نساء القصور إلى العائلات العالمة والتجارية الكبرى وهذا الامتداد العميق والمتواصل هو ما يمنح القفطان المغربي صفة ‘الاستمرارية التاريخية’ التي تعتمدها اليونسكو معيارا أساسيا في تصنيف التراث غير المادي.

لذلك، فإن أي محاولة لفصل القفطان عن سياقه المغربي هي علميا، وفق المصدر ذاته "عملية اقتطاع قسري للتاريخ من بنيته الأصلية والتداول الجغرافي لا يصنع وحده هوية تراثية بل ما يصنعها هو التراكم وسلسلة الحِرف، والذاكرة الجماعية، والعلاقة العضوية بين اللباس والمجتمع الذي أنتجه وحافظ عليه عبر قرون والقفطان، بهذا المعنى الدقيق، هو ابن التاريخ المغربي قبل أي امتداد آخر، وابن الدولة المغربية قبل أي تداول إقليمي لاحق".

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات