أخبار عاجلة

وهمُ انفصال منطقة القبائل

سيكون من الجيّد لو تقرأ السلطاتُ الجزائرية قرار نظيرتها الفرنسية حظر تجمع انفصاليي منطقة القبائل يوم الأحد الماضي قرب باريس على أنه بادرة طيبة نحو الجزائر.
من الصعب فصل القرار عن سياق العلاقات الجزائرية الفرنسية التي سقطت في أزمة شديدة خلال السنوات الأخيرة ولم تخرج منها بعد.
أعدّت «الحركة من أجل استقلال القبائل» جيّداً لتجمعها المذكور. حشدت وسائل الإعلام الفرنسية، خصوصاً اليمينية المعروفة بعدائها للجزائر، ووجهت دعوات لضيوف يدعمون توجهها. كان من المقرر أن يُتوَّج اجتماعها بإعلان انفصال منطقة القبائل، إلا أن باريس راعت مصالحها العليا واختارت تفادي المزيد من التأزم مع الجزائر، فأوعزت لحاكم منطقة إيفلين، غرب العاصمة باريس، بحظر التجمع.
كما هو مألوف في مثل هذه المواقف، كانت الذريعة المخاوف الأمنية والحفاظ على النظام العام. كما أن تحجّج السلطات الفرنسية بأن المكان الذي اختارته الـ»ماك» لتجمعها غير مناسب، مع ترك احتمال عدم الممانعة عن إيجاد مكان آخر مفتوحاً، طريقةٌ معروفة لامتصاص الغضب وتأخير أي حدث غير مرغوب مع الاستعداد لمراحله المقبلة إنْ وُجدت.
ورغم ما في هذه الحجج من وجاهة، لأن احتمالات الخلل الأمني والمسّ بالنظام العام كانت واردة وفرنسا في غنى عنها، إلا أن الأسباب والمخاوف الحقيقية بعيدة عن مكان التجمع، وجوهرها سياسي أولاً ثم أمني ـ تنظيمي بالدرجة الثانية.
لقد راعى التصرف الفرنسي الحساسية الجزائرية تجاه الـ «الماك». وبغضّ النظر عن كون باريس تصرفت من تلقاء نفسها أو استجابة لضغط أو تهديد جزائري، على المسؤولين الجزائريين أن يُثمِّنوا هذه الالتفاتة ويتذكّروا أن فرنسا لا تُقدّم خدمات من هذا النوع لأيٍّ كان وبسهولة. لنتذكر كيف تحتضن باريس منظمة «مجاهدي خلق» الإيرانية، على سبيل المثال، وتمنحها التسهيلات وتسمح لها بتنظيم نشاطات تأخذ طابع الاحتفالات السياسية المناهضة لنظام طهران جهاراً نهاراً.
لهذا من الضروري أن تستغل الجزائر، وباريس أيضاً، هذه الفرصة في جهود تطبيع العلاقات الثنائية، أو على الأقل إخراجها من عنق الزجاجة كمرحلة أولى.

وهكذا قد يتبيّن أن انفصاليي منطقة القبائل ساهموا، من حيث لم يسعوا، في التقريب بين الجزائر وباريس بعد أن كان أحد أهدافهم تعميق الهوة بين البلدين، لأن أيّ تقارب بينهما سينعكس سلباً على حركة الانفصال ونشاطاتها على الأراضي الفرنسية.
بعيداً عن الوجه السياسي للموضوع، واقع الأمر أن فكرة استقلال منطقة القبائل غير واقعية وفُرص تحقيقها على الأرض ضئيلة بل منعدمة. (الفرنسيون يعرفون هذا جيّدا لأنهم حاولوا استغلال الموضوع أثناء الفترة الاستعمارية وفشلوا وأدركوا استحالة تنفيذه).
كل شيء من حول فكرة الانفصال يُضعفها ويقلل من جدّيتها.. السياق السياسي والاستراتيجي الدولي؛ عالم يجنح نحو التكتلات والفضاءات ولا مستقبل فيه للدول الصغيرة أو حديثة العهد؛ تراجع مدّ الانفصال في كل القارات حتى باتت المناداة به هنا أو هناك تثير الريبة والامتعاض، ومرادفاً لابتزاز الدول الهشّة وإضعافها؛ فشل أغلب المجتمعات المستقلة حديثاً في بناء دول قوية اقتصادياً ومستقرة سياسياً.
على الصعيد المحلي هناك عوامل لا تقلُّ أهمية تجعل فكرة الانفصال وهماً. أبرز هذه العوامل معنوي، وهو أن المنطقة لم تُحتل في غفلة من أهلها حتى تستقل.
الشيء الآخر أن الانفصال ليس مطلباً جارفاً في منطقة القبائل، بل فكرة سياسية كيدية تُبقيها بعض الدوائر الفرنسية على قيد الحياة لتستعملها عند الضرورة، لأن العلاقات الجزائرية الفرنسية، بخصوصياتها وتعقيداتها الكثيرة، بحاجة إلى أوراق ضغط وابتزاز هنا وهناك.
على الأرض في منطقة القبائل (وباقي مناطق الجزائر) كثيرون يعتبرون الحديث عن الانفصال خيانة وكفراً. الإجماع، في القبائل خصوصاً والجزائر عموماً، أن أبناء منطقة القبائل الذين سقطوا في معارك حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي لم يُضحّوا بأرواحهم من أجل منطقتهم، وأن الكثير منهم سقطوا بعيداً عنها في شرق البلاد ووسطها وجنوبها. كما أن الراحل كريم بلقاسم الذي قاد وفد التفاوض مع الفرنسيين في إيفيان (على الحدود الفرنسية السويسرية) وأمضى بأنامله وثيقة إعلان الاستقلال، فعل ذلك باسم الجزائر كلها وليس منطقة القبائل التي ينحدر منها، وكان من الذين آثروا تأخير التوقيع على الاستقلال بسبب تمسك الفرنسيين بالصحراء، وليس بسبب منطقة القبائل.
من العوامل أيضاً تأخر طرح مطلب الانفصال. لم يسمع الجزائريون أحداً يطالب بالانفصال عندما كانت منطقة القبائل عرضة للظلم الحكومي والقمع الأمني والسياسي خلال العقود الثلاثة الأولى من الاستقلال.
في تلك الفترة كانت المنطقة شبه منبوذة، والسلطات السياسية والأمنية تتعمد تهميشها بسبب روح الاحتجاج التي كانت سائدة فيها، ضد الاستعمار الفرنسي أولاً ثم ضد سلطات الاستقلال التي وصمتها بأمور سلبية وأحيانا خطيرة.
اليوم تعيش القبائل في تناغم مع بقية مناطق البلاد. أبناء المناطق الأخرى يزورونها دون توجس. الأمازيغية أصبحت لغة رسمية يحميها دستور البلاد، وانتشارها امتد في الحياة اليومية خارج القبائل، هناك قنوات إذاعية وتلفزيونية تبث بها، بعض الجامعات تُدرّسها كبرنامج متخصص. الجزائريون اليوم لا يتضايقون أو يبدون أيّ امتعاض عند سماعهم الأمازيغية أو كلاماً عن التراث الأمازيغي الغني في وسائل الإعلام أو الشارع.
كل هذا ساهم في حرمان الانفصاليين من ورقة ثمينة كانت ستخدمهم كثيراً لو تُركت في أيديهم.
بقيَ على السلطات الجزائرية ألا تجعل الاهتمام بمنطقة القبائل مناسباتياً وفلكلورياً. عليها أيضا أن تتوقف عن توظيف المنطقة سياسياً، أو اعتبارها حالة خاصة والاهتمام بسكانها واحتياجاتهم منَّة أو هدية منها لهم. والأهم، على السلطات الجزائرية أن تعي أن فكرة الانفصال مستحيلة التنفيذ وأن هامش المناورة لدى الـ»ماك» ضيّق ومنعدم تقريباً. أما في فرنسا فهي ظاهرة صوتية لا أكثر، وأرجّح أن فرحات مهني ورفاقه يدركون ذلك وهدفهم إزعاج السلطات الجزائرية أكثر منه تحقيق الانفصال.
في المقابل، حبّذا لو تأخذ الـ»ماك» بجدية أكبر موضوع أن المصالح القومية والاستراتيجية للدول فوق كل شيء، وأن فرنسا تأويها نعم، لكنها لن تُفضّلها على علاقاتها العميقة ومصالحها المتشعبة مع الجزائر. وعليها أن تضع في حسبانها أنها لن تجد بلداً آخر يأويها ويسمح بنشاطاتها إذا ما خسرت فرنسا.

توفيق رباحي

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات