أخبار عاجلة

تهريب النفط يتفشّى في غرب ليبيا وسط نفوذ العائلات والميليشيات

تتصاعد مؤشرات خطيرة على أن المنطقة الغربية من ليبيا باتت مركزاً رئيسياً لواحدة من أعقد قضايا الفساد في البلاد: تهريب الوقود والنفط الخام. ورغم أن ليبيا استعادت جزءاً كبيراً من قدراتها الإنتاجية خلال السنوات الأخيرة، فإن كميات ضخمة من النفط ومشتقاته تختفي على طول الطريق بين الحقول والموانئ ومحطات التوزيع، في ظاهرة توصف بأنها "اقتصاد ظلّ" يستنزف الموارد السيادية للدولة ويغذي الصراعات المحلية.
وسلطت مجلة جون أفريك الفرنسية الضوء في عددها الأخير على معطيات مثيرة استقتها من تحقيق موسع أجرته منظمة "ذا سينتري" الأميركية، أكدت فيه أن نظام دعم الوقود الذي تحافظ عليه ليبيا منذ عقود تحوّل إلى أحد أهم مصادر النفوذ للعائلات المتصدّرة للمشهد الاقتصادي والسياسي في غرب البلاد، خصوصاً بين عامَي 2022 و2024، وهي الفترة التي تزامنت مع إحكام حكومة عبدالحميد الدبيبة سيطرتها على المؤسسات التنفيذية والمالية.
ويرى التقرير أن الدعم الحكومي الضخم للوقود 'حيث يباع اللتر الواحد بسعر 0.03 دولار فقط' خلق هامشاً هائلاً للربح يُغري الميليشيات وشبكات النفوذ، ما فتح الباب أمام تهريب واسع النطاق يُدار عبر قنوات رسمية وغير رسمية، بمستويات تساهل أو غضّ طرف من سلطات محلية تتعايش مع نفوذ الجماعات المسلحة.
ويشير تقرير جون أفريك إلى أن عدداً من العائلات البارزة في المنطقة الغربية عززت نفوذها السياسي والمالي بفضل قدرتها على التحكم في مفاصل توزيع الوقود ومحطات التخزين وشبكات النقل. هذه العائلات 'التي ترتبط علاقاتها بالسلطة في طرابلس منذ تشكيل حكومة الدبيبة'  أصبحت جزءاً من منظومة ثقيلة تتقاطع فيها المصالح الاقتصادية مع الولاءات العسكرية.
وبحسب "ذا سينتري"، فإن ارتفاع عمليات التهريب بين 2022 و2024 ليس مجرد نتيجة لفوضى أمنية، بل يُعدّ انعكاساً لسياسة "شراء السلم الاجتماعي" التي اتبعتها حكومة الدبيبة، حيث تم ضخ أموال ضخمة في جيوب الفصائل المسلحة بوصفها وسيلة لتجنب الصدام معها، الأمر الذي خلق بيئة ملائمة لتوسّع شبكات تهريب الوقود.
ويراقب السكان مرور قوافل الشاحنات المحمّلة بالوقود المدعوم نحو دول مجاورة فيما تعاني مدنهم نقصاً حاداً في الإمدادات. ويُظهر هذا المشهد "بحسب المنظمة الأميركية" أن منظومة الدعم التي كان يُفترض أن تخفّف أعباء المواطنين تحولت إلى محرك تجاري مربح للشبكات العابرة للحدود، وإلى مصدر توتر اجتماعي متصاعد.
وتقدّر تكلفة هذا التهريب بأكثر من 6.7  مليار دولار سنوياً، وهو ما يجعلها إحدى أخطر الأزمات الاقتصادية التي تواجه ليبيا. ويؤكد التقرير أن السوق الموازية باتت تبتلع كميات ضخمة من الوقود المدعوم، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الدينار، وإلى ازدحام طويل في المحطات الرسمية التي تعجز عن تلبية الطلب الحقيقي.
ورغم أن المؤسسة الوطنية للنفط تمكنت من رفع الإنتاج إلى مستويات مريحة، إلا أنها تجد نفسها اليوم عاجزة عن ضبط منظومة التوزيع. فبين 2021 و2024 تم اللجوء إلى آلية "المقايضة النفطية" مع تجار أجانب: تُمنح شركات خارجية حصصاً من النفط الخام عالي الجودة مقابل توفير منتجات مكررة لليبيا.
غير أن هذا النظام  "الذي لا يظهر في الميزانية العمومية للمؤسسة" سمح بحدوث فراغ رقابي كبير يستغله المهربون. وقد ارتفعت الواردات من 20.4 مليون لتر يومياً في 2021 إلى أكثر من 41 مليون لتر نهاية 2024، بينما لا توجد دلائل على ارتفاع مماثل في الاستهلاك المحلي.
وأحالت المؤسسة مسؤولية تحديد الاحتياجات إلى لجنة "كبار المستهلكين" التي تضم شركة الكهرباء ومصانع الحديد والأسمنت. لكن هذا الهيكل الإداري لم ينجح في سد الثغرات، إذ بقيت كميات كبيرة تتسرب عبر الموانئ والطرقات والمستودعات.
وتشير جون أفريك إلى أن الجماعات المسلحة في المنطقة الغربية أصبحت جزءاً أساسياً من اقتصاد تهريب النفط. فوجود عشرات الميليشيات التي تسيطر على الطرق الحيوية والمخازن والمرافئ يجعل من المستحيل عملياً مراقبة التحركات بشكل كامل.

وتوضح المجلة أن هذه المجموعات تلقت خلال السنوات الماضية دعماً غير مباشر من الحكومة عبر منحها عقود حماية وتأمين وتمويلات مالية هائلة، الأمر الذي رسّخ نفوذها، وجعلها الطرف الأكثر قدرة على فرض شروطه في عمليات النقل والتوزيع.
وتُستخدم في عمليات التهريب وسائل متعددة: صهاريج ضخمة، سفن صغيرة، خطوط أنابيب سرية، وحتى مركبات مدنية. وتصل الشحنات إلى بلدان مثل السودان وتشاد والنيجر وتونس ومالطا وإيطاليا وتركيا.
ولا يقتصر أثر التهريب على الداخل الليبي. فحسب تقرير "ذا سينتري"، فإن شبكات التهريب تغذي أيضاً عمليات عسكرية روسية في أفريقيا جنوب الصحراء، عبر إمبراطوريات ظلّ تتاجر بالنفط الليبي بأسعار منخفضة لتوفير التمويل للأنشطة العسكرية هناك.
كما طالت التداعيات دولاً أوروبية، خاصة مالطا وإيطاليا، اللتين تستقبلان جزءاً من النفط المهرّب. وتثير هذه المسارات قلق الاتحاد الأوروبي الذي يرى في تهريب الوقود إحدى الأزمات التي تغذي الهجرة غير النظامية والجريمة المنظمة في المتوسط.
وفي مقابل الفوضى في الغرب، يظهر اسم صدام حفتر، نجل قائد الجيش خليفة حفتر، كطرف يحافظ – بحسب جون أفريك – على "علاقات ممتازة" مع القوى المتنافسة في قطاع النفط. وتركز جهوده الحالية على إعادة شركة "إكسون موبيل" إلى شرق ليبيا، وهي خطوة تنظر إليها واشنطن بإيجابية. ويرى مراقبون أن التوجه الأميركي المتزايد للشرق يأتي في سياق فقدان الثقة في قدرة الغرب الليبي على ضبط الميليشيات والحدّ من الفساد.
وكان الرئيس السابق للمؤسسة الوطنية للنفط، فرحات بن قدارة، قد دعا منذ 2022 إلى اتخاذ إجراءات واسعة للحد من الاعتماد على الديزل المدعوم في توليد الكهرباء، وتوسيع إنتاج الغاز الطبيعي والطاقة المتجددة. إلا أن هذه التوصيات لم تجد طريقها للتطبيق، بينما بدا أن الحكومة في طرابلس تتسامح مع مستوى معين من تهريب الوقود بحجة "إرضاء المناطق المهمشة".
ومنذ سقوط نظام القذافي، شهدت ليبيا تقلبات عنيفة في ظاهرة تهريب الوقود، لكنها وصلت إلى أعلى مستوياتها بين 2022 و2024، حين تحولت إلى اقتصاد متكامل تشارك فيه شبكات عائلية وميليشيات ووسطاء محليون ودوليون.
والنتيجة كانت نقصاً في المحروقات داخل البلاد، وتراجعاً في قيمة العملة، وارتفاعاً في الأسعار، وتآكلاً في ثقة المواطنين بالدولة، بينما تستمر شبكات التهريب في توسيع نفوذها بلا رقيب.

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات