تشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية في الآونة الأخيرة بوادر انفتاح لافت نحو التهدئة وإنهاء مرحلة التوتر التي طبعت العلاقات بين البلدين خلال السنوات الماضية، في ظل إدراك متزايد لدى صناع القرار في الجزائر لخطورة استمرار القطيعة السياسية والدبلوماسية مع باريس. هذا الانفتاح يأتي في وقت تتصاعد فيه المخاوف من تزايد عزلة الجزائر على الساحة الأوروبية، خاصة مع تحولات موازين النفوذ في المنطقة المغاربية وتراجع حضورها في الملفات الحيوية المشتركة. وتسعى الجزائر، من خلال هذه المقاربة الجديدة، إلى كبح الخسائر الجيوسياسية والاقتصادية التي لحقت بها جراء التوتر، خصوصاً في ظل تراجع الاستثمارات الأوروبية وتقلص الشراكات الطاقية التي كانت تمثل ركيزة أساسية لاقتصادها.
وفي المقابل، يواصل المغرب تحقيق نجاحات دبلوماسية وازنة مع القوى الأوروبية، حيث رسّخ موقعه كشريك استراتيجي موثوق في مجالات الطاقة المتجددة، والأمن، ومكافحة الهجرة غير النظامية، فضلاً عن توسع شراكاته الاقتصادية مع فرنسا وإسبانيا وألمانيا. هذا التفوق المغربي على الصعيدين الدبلوماسي والاقتصادي زاد من الضغوط على الجزائر لإعادة تموضعها الخارجي وتعديل سياستها الإقليمية، في محاولة لاستعادة التوازن والحد من تداعيات تراجع نفوذها في شمال أفريقيا والساحل، ولتفادي مزيد من التهميش في المشهد المتوسطي المتسارع التحولات.
وقد أعلن رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي، نيكولا ليرنر في تصريحات لإذاعة فرانس إنتر، أمس الاثنين، أن الجزائر بعثت مؤخرًا بإشارات تعبّر عن استعدادها لإعادة فتح قنوات الحوار مع باريس، وذلك بعد أكثر من عام من القطيعة والتوتر الدبلوماسي الذي وصفه بأنه "الأخطر منذ استقلال الجزائر عام 1962".
وتأتي هذه التصريحات لتؤشر على تحوّل ملموس في الموقف الجزائري، إذ يبدو أن الجزائر مرغمة على تهدئة التوتر تفادياً للعزلة وللمزيد من الخسائر الجيوسياسية والجيواقتصادية، بينما تحقق جارتها المغرب انفتاحاً أوسع وعلاقات أوثق مع الشركاء الأوروبيين.
وتدهورت العلاقات بين البلدين منذ صيف 2024، عقب سلسلة من الأزمات السياسية والرمزية، امتدت من الخلاف حول الذاكرة الاستعمارية إلى ملفات الهجرة والأمن الإقليمي. وتبادل الجانبان الانتقادات الحادة واستدعاء السفراء، وسط مناخ من انعدام الثقة غير مسبوق في تاريخ العلاقات الثنائية.
ويرى مراقبون أن الجزائر، التي تشهد علاقاتها توتراً موازياً مع المغرب وإسبانيا ومالي، تواجه عزلة دبلوماسية متنامية، ما يدفعها إلى إعادة النظر في سياساتها الخارجية. ويشير محللون إلى أن استمرار التصعيد مع فرنسا سيحرم البلاد من حليف تقليدي وممرّ رئيسي نحو أوروبا، في وقت تحتاج فيه إلى شركاء اقتصاديين وأمنيين لمواجهة تحديات داخلية وخارجية متشابكة.
في هذا السياق، كشفت مصادر دبلوماسية فرنسية عن وجود جهود غير رسمية يقودها مسؤول جزائري سابق مقيم في فرنسا، لتقريب وجهات النظر وإعادة بناء الثقة بين العاصمتين. كما يجري الحديث عن اتصالات لترتيب لقاء محتمل بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الجزائري عبدالمجيد تبون على هامش قمة مجموعة العشرين في جنوب أفريقيا هذا الشهر، في خطوة تعكس رغبة مشتركة لتفادي الانزلاق نحو القطيعة.
ودعت الجزائر رسمياً هذا الشهر وزير الداخلية الفرنسي لوران نوينز إلى زيارة البلاد، في إشارة إلى مرونة جديدة في التعاطي مع باريس. خطوة وصفها دبلوماسيون بأنها براغماتية تهدف إلى "فتح نافذة للحوار بعد شهور من القطيعة غير المثمرة".
وتدرك الجزائر، بحسب محللين، أن مصلحتها تقتضي إعادة بناء علاقة متوازنة مع فرنسا، خصوصاً في الملفات الأمنية والاقتصادية والهجرة. ويشير هؤلاء إلى أن تبنّي مقاربة أكثر براغماتية يمثل خياراً اضطرارياً أمام واقع جيوسياسي متغير في المنطقة المغاربية والساحل، حيث لم يعد بإمكانها الاعتماد فقط على تحالفاتها التقليدية مع روسيا أو الصين، في ظل تشابك المصالح الأوروبية على ضفة المتوسط.
وتحتاج الجزائر، التي تعاني من تراجع نفوذها الدبلوماسي، إلى ترميم جسور الثقة مع القوى الغربية للحفاظ على موقعها في توازنات المنطقة، وتفادي خسارة دورها التاريخي كفاعل محوري في الأمن الإقليمي.
من جانبه، عبّر وزير الداخلية الفرنسي لوران نوينز، في مقابلة مع صحيفة لوباريزيان قبل فترة، عن رفضه لما سماه "سياسة ليّ الذراع" في التعامل مع الجزائر، مؤكداً أن "المواجهة لا تُجدي نفعاً". وأعرب عن أسفه لتصويت البرلمان الفرنسي على مشروع قانون يدعو إلى إلغاء اتفاقية الهجرة لعام 1968 التي تمنح الجزائريين امتيازات خاصة، قائلاً إن "قطع الجسور ليس حلاً".
ويعد هذا التحول في النبرة الفرنسية مؤشراً على إدراك باريس أن استمرار التوتر يضر بمصالحها الاستراتيجية في شمال أفريقيا، خاصة في ظل تصاعد نفوذ قوى منافسة كإيطاليا وإسبانيا، واحتدام التنافس في ملفات الطاقة والهجرة والأمن.
واللافت أن هذه اللغة الهادئة تختلف تماماً عن مواقف الوزير السابق برونو ريتايو، الذي كان يدفع نحو تشديد اللهجة مع الجزائر، واعتُبر من أبرز أسباب تأزيم العلاقات الثنائية خلال الأشهر الماضية.
ورغم التحركات الإيجابية، لا تزال ملفات عديدة تعيق تطبيع العلاقات بين البلدين. أبرزها قضية السجناء الفرنسيين في الجزائر، وعلى رأسهم الكاتب بوعلام صنصال، الذي يحمل الجنسيتين الجزائرية والفرنسية ويقضي عقوبة بالسجن خمس سنوات بتهمة "المساس بوحدة الوطن"، إضافة إلى الصحافي الفرنسي كريستوف غليز، المحكوم ابتدائياً بالسجن سبع سنوات بتهمة "تمجيد الإرهاب".
وطالب الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير مؤخراً السلطات الجزائرية بـ"العفو عن صنصال" في مبادرة أوروبية تهدف إلى دفع الجزائر نحو مزيد من الانفتاح الحقوقي وتحسين صورتها في المحافل الدولية.
وفي المقابل، يواصل المغرب تعزيز حضوره الدبلوماسي في القارة الأوروبية والدولية، مستفيداً من تصويت مجلس الأمن على قرار يمنح الأقاليم الجنوبية حكماً ذاتياً تحت السيادة المغربية، وهو ما اعتُبر انتصاراً دبلوماسياً بارزاً للرباط.
كما نجحت المملكة في توسيع شبكة شراكاتها الاقتصادية والأمنية مع قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا وألمانيا، ما جعلها لاعباً محورياً في قضايا الطاقة والهجرة والأمن الإقليمي. هذا الانفتاح، بالمقارنة مع الانكماش الجزائري، يزيد من حدة التباين بين الجارين في موقعهما الإقليمي وصورتهما لدى الشركاء الأوروبيين.
ويرى خبراء أن الجزائر باتت تدرك أن خيار القطيعة مع فرنسا مكلف سياسياً واقتصادياً، وأن العودة إلى الحوار لم تعد ترفاً دبلوماسياً بل ضرورة استراتيجية. فالبلد، الذي يعتمد على صادرات الطاقة كمصدر رئيسي للدخل، يحتاج إلى التكنولوجيا والاستثمار الأوروبيين لمواجهة تحديات ما بعد النفط وتنويع اقتصاده.
وفي ظل التحولات المتسارعة في المنطقة، من اضطراب الأوضاع في الساحل إلى التحولات في أسواق الطاقة، تجد الجزائر نفسها أمام معادلة صعبة: الحفاظ على خطاب السيادة والاستقلالية من جهة، وعدم خسارة شركائها الغربيين من جهة أخرى.

تعليقات الزوار
لا تعليقات