كنت أتمنى أن أكتب هذا الأسبوع عن أشياء جميلة، تحصل في بلدي وأخرج من مساحة التشاؤم- أنا اسميها نقدية – التي تميز جزءا من كتاباتي، حسب بعض الاصداء التي تصلني من القراء. أشياء جميلة لا يخلو منها البلد عادة ما نجد، وراءها، مواطنين بسطاء، تمكنوا من تحقيق نجاحات فردية في الداخل والخارج وبعض المؤسسات البعيدة عن المنطق السياسي الطاغي، الذي ما زال تحت تأثيرات فترة ما بعد توقف مسيرات الحراك الشعبي، بكل نتائجها السياسية الوخيمة، التي عطلت عملية الإصلاح السياسي، نادى بها المواطن الجزائري بقوة وسلمية كبيرتين في سنة 2019-2020.
لكن تسارع الأحداث هذه الأيام أعادني إلى مربع المنطق السائد وطنيا، بكم الإحباط المرتبط به، بعد إعلان قرار العفو عن الروائي بوعلام صنصال، كان من حسناته، انتباه الرأي العام الوطني إلى قضية المساجين القابعين في السجون الجزائرية، من غير المحظوظين الذين لا يملكون قوى سياسية ولا لوبيات قوية تدافع عنهم، ولا جنسية ثانية تحميهم، سمحت للكثير من حامليها باختراق الحدود والإفلات من السجن في أكثر من حالة.
في بلد ما زال مطلب حقوق الإنسان والحرية يعاني من تبعات انقسامية ثقافية وقيمية كبيرة، تعيشها القوى الرافعة للواء هذا المطلب، الذي لم ينغرس جماهيريا بالقدر الكافي، رغم المآسي التي عاشها الجزائريون في هذا الميدان بالذات، خلال العشرية السوداء. انقسامات ثقافية وسياسية زادتها عمقا أزمة مؤسسات حقوق الإنسان، بالضعف الذي تعانيه هذه الجمعيات ذاتها التي أصابتها لعنة النخب التي تعانيها الجزائر على أكثر من صعيد، ظهرت بشكل جلي وهي تتعامل مع حالة الكثير من الوجوه التي تعرضت للسجن في المدة الأخيرة، على غرار بوعلام صنصال ومحمد لمين بلغيث، الذي ينتظر الكثير من الأوساط الداعمة له، المحسوبة على التيارات المحافظة العفو عنه. العفو عن بوعلام صنصال لسنا في حاجة إلى ذكاء خارق، للقول إن الطرف الفرنسي هو الذي كان وراءه، على خلاف ما تروج له بعض الأوساط المعادية لتحسن العلاقات الجزائرية ـ الفرنسية التي تبقى ضرورية للبلدين، مهما كانت الصعوبات الحالية. ترك المطالبة به للرئيس الألماني لدواعٍ وصفت بالإنسانية، استغل فيها نوعية علاقاته مع الطرف الجزائري المرتبط بأجندة الرئيس الجزائري، الذي يمكن توقع، وبكل سهولة، كم الحرج السياسي الذي سيلاقي نفسه أمامه بعد هذا القرار الذي لم يجد الإجماع عند الجزائريين، ممن لم ينسوا ما قاله رئيس الجمهورية نفسه حول الرجل وعائلته وأصوله المشبوهة.. بعد الإعلان عن سجنه مباشرة. تدخل من قبل الرئيس تحول إلى أسلوب مميز له لم يعرف عند غيره ممن سبقه من رؤساء، حصل قبل في حالة الصحافي قاضي إحسان، وخالد درارني الذي عاد لاستقباله وكأن شيئا لم يكن. بوعلام صنصال الذي كنت شخصيا، منذ البداية ضد سجنه، اعتبرته ورطة وقع فيها النظام السياسي، نتيجة الفوضى التي ما زالت تعيشها المؤسسات المركزية الأمنية، كما بينها لاحقا ما قيل إنه هروب للرجل الأول المسمى بالجن. ورطة كان ممكن تجنبها، رغم كل ما صرح به الروائي، منآراء قبيحة وغير مقبولة حول تاريخ وجغرافية الجزائر، ورغم الاستعمال الوقح الذي يقوم به اليمين المتطرف الفرنسي لهذا المواطن الفرنسي الجديد، ضد بلده الأصلي، الذي احتل فيه مواقع نجاح أكيدة في أعلى المناصب، لم تمنع فيه روايته من التوزيع. رغم تخصصه في التحرش بالجزائر يوميا تقريبا، من داخل الفضاء الإعلامي الفرنسي المعادي للجزائر، بعد سيطرة قوى يمينية متطرفة عليه. إعلام ما زال مسموعا بكثرة من قبل الجزائريين. استعمله للمس بثوابت السياسية الخارجية الجزائرية، كما فعل وهو يزور إسرائيل ويتقرب من مسؤوليها من اليمين المتطرف. في وقت لم تتمكن فيه الجزائر من بناء منظومة إعلامية سمعية – بصرية ذات مصداقية لا في الداخل ولا في الخارج. كان يمكن أن ترد على الاعلام الفرنسي المعادي.
عفو عن صنصال لم يُكسر سلسلة النكسات التي تعيشها الجزائر، منذ سنوات حتى ونحن نشاهد ذلك الاهتمام الذي أولاه المواطن الجزائري لقضية الحريات والمساجين الجزائريين، التي قد ينتج عنها ضغط على السلطة للعفو عنهم والتخفيف من اللجوء إلى الحكم بالسجن لفترات طويلة، كحل لكل اختلاف وسوء تفاهم بين السلطة والمواطن، استمر فيه المنطق نفسه الذي تأكد مع تتابع الأحداث التي عاشتها الجزائر، قبيل هذا العفو الرئاسي، لسنا في حاجة إلى العودة بصددها إلى ما قيل إنه هروب للرجل الأول للمخابرات الداخلية، وإلى ما سمي بقضية رئيسة الهلال الأحمر الجزائري، بكم التجاوزات المرتبطة بها، التي تم الحديث عنها من قبل إطارات هذه المؤسسة الإنسانية، تكون قد تورطت فيها العدالة والدرك الوطني كمؤسسة أمنية مركزية، عرفت هي الأخرى اضطرابات أكيدة على رأس قيادتها، قد يفسر جزءا من هذه السلوكيات التي تم الحديث عنها بمناسبة ما أصبح يعرف بقضية ابتسام حملاوي، لم يتفوه المسؤولون بكلمة عنها حتى الان، رغم الوقت الذي مرّ عليها. الشطط نفسه في استعمال الحبس نجدها حاضرة في حالة الشاعر الشاب محمد تاجديت، الذي حكم عليه بالسجن خمس سنوات نافذة بعد كتابات على الفيسبوك.. وغيرها كثير، مست القريب من النظام والبعيد عنه،
في وقت تفاقمت فيه انتكاسات النظام السياسي على المستوى الدولي أكثر، كما ظهر بجلاء في قضية الصحراء، التي وافق فيها مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة على لائحة أمريكية لصالح الأطروحة المغربية، ما زالت تداعياتها على مستوى النظام الجزائري لم تظهر على السطح بعد انتهاء مرحلة تلقي هذه الصدمة الكبيرة المرتبطة بأهم ملف دولي دافعت عند الدبلوماسية الجزائرية، لأكثر من نصف قرن. جاءت بعد رفض منظمة البريكس لعضوية الجزائر التي عوّل عليها الرئيس الجزائري كثيرا للحصول على مكانة مع كبار العالم لم يتمكن من الحصول عليها. لتزيد في حالة الاضطراب التي لم يتعافَ منها هذا النظام، الذي يبقى في حاجة إلى العودة إلى أساسيات التسيير السياسي السليم المبني على عملية انتقاء شفاف لنخبه، التي يوصلها إلى مراكز القرار، ما يسمح لها بالصمود في مناصبها لوقت معقول، بموازاة الاعتماد على سياسة فتح للحوار مع الجزائريين، عبر مؤسسات إعلامية يسمح لهم داخلها بالحوار حول القضايا التي تهمهم، بدل الغلق السائد في الوقت الحالي، حوار لن يكون ممكنا دون تمكين المواطنين من بناء مؤسسات سياسية قوية وشفافة يساهمون من خلالها في بناء بلدهم، حتى لا يبقى الجزائريون على الهامش كما هو حاصل الآن.
ناصر جابي

تعليقات الزوار
لا تعليقات