أخبار عاجلة

بوعلام صنصال: قضيت عاما في زنزانة انفرادية وزارني "زائر ليلي" عرض علي الصمت مقابل الإفراج

في أول تصريح له بعد الإفراج عنه من السجون الجزائرية بوساطة ألمانية، كشف الروائي بوعلام صنصال أنّه قضى عاما كاملا في "عزلة تامة" داخل جناح شديد الحراسة حيث مُنع فيه من القراءة والكتابة ولم يُسمح له سوى بكتب دينية أو نصوص بالعربية، مؤكدا أنه نُقل بشكل غامض بين السجون والمستشفى في الأيام الأخيرة قبل إطلاق سراحه، وأن "زائرا ليليا" حاول إلزامه بالصمت مقابل الحرية، لكنه رفض قائلا "من الأفضل أن تبقوني عشرين سنة أخرى. إذا لم يكن لي الحق في الكلام فما الذي أفعله على هذه الأرض؟".

حين وصل بوعلام صنصال إلى برلين، بدا صوته في اتصال مع صديقه الكاتب كمال داوود كما لو أنه انبعث من تحت الرماد وفق ما كشفه لـ "لوبوان الفرنسية" موردا أنه حمل نبرة طفولية خفيفة، ضحكة متقطعة، وشغف لم ينجح السجن في إطفائه. وقدأراد أن يقول جملة واحدة أوّلا "مرحبا يا فرنسا… بوعلام يعود، سننتصر" كانت تلك صيغة إعلان شخصي وموقف سياسي في آن اختارها بوعي شديد ليصوغ بها خروجه من دائرة الصمت إلى فضاء تحركت فيه باريس وبرلين لأجل إطلاق سراحه.

خلال عام الاعتقال، لم يُسمح لصنصال بالقراءة إلا لكتب دينية أو نصوص عربية محدودة، في سجون يُعرَف فيها التعامل مع المعتقلين ذوي الخلفيات الفكرية الحساسة بأنه شديد الرقابة، إلى حدّ منع الكتب الأجنبية أو الفلسفية أو الروايات الغربية، وهو ما يؤكده سجناء سابقون وتقارير جمعيات جزائرية تتابع ملفات حرية التعبير.

لكن خلف ذلك النظام الصارم ازدهرت سوق سوداء صغيرة لتبادل الكتب  تُشترى بالسجائر أو قطع الحلوى، في مشهد يلخّص هشاشة الحق في المعرفة داخل الجدران، أما الكتابة، فكانت مستحيلة، لأن الرجل أمضى جزءا كبيرا من عامه في زنزانة معزولة ضمن نظام يُصنَّف في الجزائر باعتباره "حماية مشددة" يستخدم مع الصحافيين و الناشطين وبعض الشخصيات التي تُعتبر حساسة سياسيا.

يقول صنصال، لـ "لوبوان" أنه لم يكن يعلم بالكثير مما يحدث خارج أسوار السجن، لكنه كان يشعر بتغيرات داخلية لا تخطئها عين رجل عاش تجارب سياسية طويلة حيث تراجع في وتيرة التضييق، اختلاف في نبرة الحراس، تغير في نظام الزيارات، إشارات صغيرة لكنها كافية لتدل على أن قضيته أصبحت مطروحة خارج الحدود وقال إنه أدرك ذلك تماما حين نُقل فجأة من سجن إلى آخر، ومن هناك إلى مستشفى مصطفى في العاصمة، وهي حركة غير معتادة إلا في حالات قيد التفاوض أو الإفراجات ذات الطابع السياسي، خصوصا حين يتحول السجين رسميا إلى "مريض تحت الحراسة" وهي صيغة إدارية معروفة في الجزائر بأنها الجسر الذي يسبق خطوة العفو أو إطلاق السراح المشروط.

في شهادته لـ "لوبوان"، تحدث صنصال عن "زائر المساء" الذي دخل غرفته في المستشفى برسالة غامضة "عليك أن تضع قليلا من الماء في نبيذك"، في إشارة إلى توقع أن يُخفف لهجته بعد الإفراج لكن رده جاء قاطعا "من الأفضل أن تبقوني عشرين سنة أخرى إذا لم يكن لي الحق في الكلام، فما الذي أفعله على هذه الأرض؟"، تلك الجملة التي هي بمثابة إعلان موقف لا يخطئه قارئ لتاريخ الرجل، الذي لم يتوقف طيلة عقود عن نقد النظام الجزائري، وعن الدفاع عن حرية التعبير، رغم كل الدعاوى والهجمات التي تعرض لها وفي تلك اللحظة، بدا وكأنه يرسم حدود اللعبة لن يخرج إلا كما دخل، كاتبا لا يساوم على صوته.

ملف صنصال أصبح ورقة دبلوماسية بين ثلاث عواصم هي الجزائر وباريس وبرلين، ففي الوقت الذي كانت فيه العلاقات الجزائرية الفرنسية تمر بحساسية حادة منذ 2022، كانت ألمانيا تتحرك بهدوء أكبر معتمدة قنواتها التقليدية في الوساطة الإنسانية وحقوق الإنسان.

مصادر دبلوماسية أوروبية كانت تحدثت في الأسابيع الماضية عن "مفاوضات معقدة" شاركت فيها شخصيات سياسية ألمانية، بعضها من البرلمان، إضافة إلى قنوات أخرى قريبة من الخارجية، وهو ما يفسر التفاؤل الذي أبداه صنصال في قوله "آمل أن العلاقات بين فرنسا والجزائر ستتطور بفضل ألمانيا ودبلوماسيتنا"، وقد ألمح الكاتب أيضا إلى أنه عرف بعض "تفاصيل ما جرى في الكواليس" لكنه اختار ألا يفصح عنها الآن، ربما احتراما لحساسية المرحلة أو لأنه يدرك وزن الاعترافات التي يمكن أن تؤثر على مستقبل من تدخلوا لأجله.

سياق الاعتقال نفسه يدخل ضمن موجة أوسع من توقيف صحافيين وكتّاب ومدونين في الجزائر خلال السنوات الأخيرة، في ظل اتهامات متكررة من منظمات دولية، بينها "مراسلون بلا حدود" و"العفو الدولية"، باعتبار أن البلاد شهدت "تراجعا عن هامش الحريات" منذ 2019.

وفي هذا السياق، يصبح اعتقال صنصال الروائي المعروف بنقده الشرس للنظام حلقة ضمن سلسلة أكثر اتساعا وإن كانت حالته قد اكتسبت طابعا دوليا بسبب مكانته في الأدب الفرنسي، وترجمات كتبه، وعلاقته الطويلة بدور نشر مثل "غاليمار".

حين وصل إلى برلين، لم يكن الرجل منهكا فقط من عام الاعتقال، بل من صمت أُجبر عليه وبينما كان ينتظر زوجته نزيهة القادمة من الجزائر، كان يحاول إعادة التقاط خيط حياته وكأن السجن لم يكن إلا فاصلا مُثقلا بالتجربة فضحكته لا تزال نفسها كما يصفها داوود "هشة، مرحة، ومشحونة بطاقة رجل يرفض الهزيمة كما بدا وكأنه يستعد لمرحلة جديدة، يزور فيها باريس "غدا أو بعد يومين" كما قال، ليعود إلى فضائه الطبيعي الأدب، والنقد، والجدل العام.

ولم تكن جملة "مرحبا يا فرنسا… بوعلام يعود، سننتصر" مجرد تحية بل كانت بيانا سياسيا صغيرا، ورسالة إلى من تابعوا قضيته، وإلى السلطات التي اعتقلته، وإلى الحكومات التي فاوضت بشأنه، وإلى مجتمع ثقافي واسع اعتبر سجنه اعتداء على الأدب أكثر من كونه عقابا قضائيا وهي، قبل ذلك كله، إعلان عودة رجل ربما لم يتغير رغم عام لم يكن مجرد اعتقال، بل محاولة إسكات لم تنجح والآن، من برلين، يستعيد الرجل صوته وربما يستعد لكتابة الكتاب الذي سيتكفل وحده بقول ما لم يقله في هذا الحوار.

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات