أخبار عاجلة

احتجاز وتفتيش سفينة ركاب فرنسية يهدد جهود تلطيف الأجواء بين الجزائر وباريس

تسبب توقيف وتفتيش سفينة المسافرين الفرنسية "جون نيكولي" داخل ميناء الجزائر العاصمة في إحياء التوتر بين الجزائر وباريس، رغم الفترة التي يُفترض أنها مخصصة لترميم العلاقات وإعادة إطلاق الحوار بين البلدين. ورغم أن السلطات نسبت الإجراء إلى مشاكل تقنية رُصدت أثناء فحص اعتيادي، إلا أن الخطوة سرعان ما اكتسبت بعداً سياسياً واسعاً، إذ أثارت شكوكاً حول مدى توافق هذا القرار مع المساعي المعلنة لفتح صفحة أكثر استقراراً ودفئاً في العلاقات الثنائية.
وتعود القضية إلى الأربعاء الماضي حين منعت سلطات ميناء الجزائر السفينة التابعة لشركة "كاورسيكا لاين" من مواصلة رحلتها نحو مرسيليا، لتظل راسية في الميناء منذ ذلك الحين.  ونقلت صحيفة "النهار" عن مصادر مطلعة أنّ المفتشين سجلوا نقائص تقنية لا تسمح بالإبحار وفقاً للمعايير الدولية، وهو تفسير لا يطرح إشكالاً قانونياً بقدر ما يثير تساؤلات سياسية، بالنظر إلى حساسية الظرف الدبلوماسي بين البلدين.
وتأتي الحادثة في وقت تحاول فيه الجزائر إظهار انفتاح واضح على إصلاح علاقتها بفرنسا بعد أكثر من عام من القطيعة شبه الكاملة. وقد مثّل قرار الإفراج عن الكاتب بوعلام صنصال تلبية لطلب ألماني باستضافته، إحدى الإشارات التي قرأها مراقبون على أنها خطوة ضمن مسار تهدئة تدريجي. غير أنّ واقعة السفينة بدت للكثيرين تتناقض مع هذا المناخ الجديد، وتعيد العلاقات إلى مربع التوتر، أو على الأقل إلى حالة الارتياب المتبادل.
وفي الفترة الأخيرة، ظهرت مؤشرات فرنسية تكشف أنّ باريس تلقت رسائل إيجابية من الجزائر. فقد صرّح رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي، نيكولا ليرنر، بأن الجزائر تبدي استعداداً لإعادة فتح قنوات التواصل بعد مرحلة وصفها بـ"الأخطر منذ الاستقلال". وجاء كلامه ليعزز الانطباع بأنّ الجزائر أدركت كلفة استمرار التباعد السياسي مع باريس، خصوصاً مع تراجع حضورها داخل الدوائر الأوروبية الرئيسية، وتزايد التحولات الجيوسياسية في المنطقة المغاربية لصالح قوى إقليمية أخرى خاصة المغرب.
لكنّ احتجاز السفينة فجّر موجة من التساؤلات حول جدية هذا الانفتاح. فبالنسبة لبعض المحللين، فإنّ الخطوة وإن بدت إجرائية من حيث الشكل، تحمل رسائل سياسية غير مريحة لفرنسا، وقد تعرقل الجهود الجارية لإعادة الدفء إلى العلاقات الثنائية. ويرى هؤلاء أنّ الجزائر، التي تواجه أصلاً توتراً متزامناً مع المغرب وإسبانيا ومالي، لا يمكنها تحمّل أزمة جديدة مع باريس في ظل حاجة ملحّة لشراكات اقتصادية وأمنية مستقرّة.
وتدهورت العلاقات الجزائرية–الفرنسية بشكل حاد منذ صيف 2024 بسبب ملفات متشابكة، من الذاكرة الاستعمارية إلى الهجرة والأمن الإقليمي. وتبادلت العاصمتان آنذاك رسائل حادّة واستدعتا السفراء، فيما تراجع مستوى التنسيق في ملفات حساسة بالساحل المتوسطي. ومع هذا الإرث من الاحتقان، كان يُفترض أن تحرص الجزائر على تجنب أي خطوة قد تُقرأ كتعمّد للتصعيد، وهو ما يزيد من الحرج السياسي لقضية السفينة.

ومن جهة أخرى، تكشف مصادر دبلوماسية في باريس عن قنوات اتصال غير رسمية يقودها مسؤول جزائري سابق مقيم في فرنسا، هدفها ترميم الثقة وتسهيل حوار أعمق بين الطرفين. ويدور حديث في الأوساط الدبلوماسية عن إمكانية عقد لقاء بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون على هامش قمة مجموعة العشرين في جنوب أفريقيا هذا الشهر. ويرى مراقبون أنّ نجاح مثل هذا اللقاء كان يستوجب تحييد أي توترات جانبية، وهو ما يجعل حادثة "جون نيكولي" تبدو أبعد ما تكون عن المناخ المطلوب.
وعلى الجانب الفرنسي، صدرت في الأسابيع الماضية إشارات تدفع نحو خفض منسوب التوتر. فقد أكّد وزير الداخلية الفرنسي، لوران نوينز، في مقابلة صحفية، أن سياسة "ليّ الذراع" ليست مجدية في التعامل مع الجزائر، معرباً عن أسفه لتصويت البرلمان الفرنسي لصالح مشروع قانون يلغي اتفاقية الهجرة لعام 1968. وفي حديثه، شدد على أن قطع الجسور ليس خياراً عملياً لبلدين تجمعهما مصالح استراتيجية متعددة المستويات.
وتقطع هذه النبرة الفرنسية الهادئة مع خطاب أكثر تشدداً تبنّاه الوزير السابق برونو ريتايو، الذي يحمّله كثيرون مسؤولية تغذية الخلافات مع الجزائر خلال الأشهر الماضية. وبحسب دبلوماسيين فرنسيين، فقد ساهم تغير المزاج السياسي في باريس في فتح نافذة جديدة للحوار.
غير أن هذه الدينامية الإيجابية، وفق محللين، تبدو اليوم مهددة بعد أزمة السفينة، التي قد تُستخدم في باريس كدليل على أنّ الجزائر لم تحسم خيار الانفتاح بعد، أو أنّ مؤسساتها تتصرف بطريقة لا تتوافق مع المسار السياسي المعلن. ويخشى دبلوماسيون فرنسيون من أنّ تتخذ بعض الدوائر في باريس من الحادثة ذريعة للضغط مجدداً باتجاه تشديد المواقف، خاصة مع تصاعد المنافسة الأوروبية في شمال أفريقيا ودخول فاعلين إقليميين، كإيطاليا وإسبانيا، على خط ملفات الطاقة والهجرة بفعالية أكبر.
في المقابل، ترى أصوات في الجزائر أنّ القرار لا يحمل أي أبعاد سياسية، وأن احترام قوانين الملاحة مسؤولية لا تقبل المساومة. لكنّ هذه المقاربة القانونية البحتة لا تلغي أن الواقعة جاءت في ظرف حساس، وأنّ وقعها السياسي يتجاوز مضمونها الإداري.
وفي المحصلة، يظهر أن حادثة احتجاز "جون نيكولي" قد شكّلت اختباراً مبكراً لمدى قدرة البلدين على الالتزام بخيار التهدئة. فبينما تسعى الجزائر إلى استعادة مكانتها الدبلوماسية وتخفيف العزلة المتزايدة على صعيد علاقاتها الأوروبية، تبدو الخطوات رمزية كهذه قادرة على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإحياء الشكوك المتبادلة. وفي غياب معالجة هادئة وسريعة للملف، يخشى مراقبون أن تتحول هذه الحادثة إلى شرخ جديد في علاقة يجمعها تاريخ طويل من الأزمات والتعقيدات، لكنها تبقى رغم ذلك ضرورة جيوسياسية للطرفين على حد سواء.

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات