في خطوة وُصفت بالجريئة والحاسمة، أعلن الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني من مدينة انبيكت لحواش أقصى شرق البلاد، بداية مرحلة جديدة في مسار بناء الدولة الوطنية، قوامها القطيعة النهائية مع القبلية والجهوية والشرائحية في الحياة العامة.
وبدا خطاب الرئيس، الذي حمل نبرة غير معتادة من الصرامة، وكأنه إعلان رسمي عن نهاية زمن الولاءات الضيقة، وبداية عهد الدولة القوية التي لا تعترف إلا بالمواطنة والعدالة والمساواة.
وقال ولد الشيخ الغزواني إن الدولة «لن تتساهل بعد اليوم مع أي استخدام للقبيلة أو الجهة أو الشريحة في ممارسات تتعارض مع مبادئ الدولة الوطنية»، مشدداً على «أن حرية التعبير مكفولة للجميع، لكن وحدة الوطن وتماسكه خط أحمر وفوق كل اعتبار».
وتعهّد الرئيس «بمحاسبة أي موظف عمومي على حضوره أو دعمه لأي نشاط ذي طابع قبلي أو جهوي»، مؤكداً «أن منطق الانتماء الوطني يجب أن يسمو فوق جميع الاعتبارات الأخرى».
وأضاف بنبرة حاسمة: «لن نقبل بعد الآن نزاعات عقارية أو خلافات على بئر أو حاجز رملي باسم القبيلة، فالدولة ستقوم بمسؤولياتها كاملة».
وفي نواكشوط، سارع حزب الإنصاف الحاكم إلى وصف خطاب الرئيس بـ»التاريخي»، مؤكداً «أنه لا يستهدف القبيلة ككيان اجتماعي، بل يواجه استغلالها في ما يسيء إلى هيبة الدولة ووحدة الشعب».
وأضاف أن «النزاعات العقارية باسم القبيلة لم تعد مقبولة، والحزم الذي أعلنه الرئيس هو توجه في محله يخدم المصلحة العامة»، داعياً «النخب السياسية والثقافية إلى تبني هذا الخطاب والعمل على نشره بين المواطنين من أجل «موريتانيا قوية وموحدة من أجل جميع أبنائها».
وأشاد الرئيس السابق لحزب «تواصل» الإسلامي، محمد جميل منصور، بما وصفه بـ»خطاب وطني يستحق الدعم»، لكنه حذّر من أن الخطاب قد يلقى نفس مصير خطب مماثلة في وادان وشنقيط وجول، واجهت عرقلة في التنفيذ من داخل دوائر النفوذ نفسها. وقال منصور موجهاً كلامه للرئيس: «أنتم صريحون في محاربة الفساد، لكن هناك من حولكم من لا يريد الإصلاح ولا يقبل بنهج دولة المواطنة. فلا بد من صرامة زائدة ومضاء لا يقبل التشكيك حتى لا تتراجع انتظارية الناس».
وفي المقابل، شنّ حزب العهد الديمقراطي (تحت التأسيس)، المحسوب على الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، هجوماً لاذعاً على الخطاب، واصفاً إياه بأنه «صحوة متأخرة» لا تعكس الواقع الميداني.
وقال الحزب في بيان شديد اللهجة، إن «ولد الغزواني تحدث عن المواطنة وهو أول من هدم أركانها»، متهماً النظام بـ»الازدواجية المقيتة والخداع الممنهج»، ومعتبراً أن ما سماه «قانون الرموز» هو «النموذج الأمثل للنظام القبلي الجهوي».
وأضاف الحزب أن السلطة «كرّست الولاءات البدائية، ووزعت الامتيازات على أساس الانتماء لا الكفاءة»، داعياً القوى الوطنية إلى «كشف زيف الدعاية الرسمية والعمل من أجل تغيير حقيقي يحقق العدالة والمساواة».
هذا ولم تعد القبلية في موريتانيا مجرد انتماء اجتماعي أو إرث ثقافي، بل تحولت على مدى عقود إلى شبكة نفوذ غير مرئية تتحكم في القرار، وتوزيع الفرص، وحتى في مصائر الناس.
وفي موريتانيا، نجحت القبيلة بفضل حضورها التاريخي في الإدارة والسياسة والاقتصاد، في إعادة تعريف مفهوم السلطة والمواطنة، بحيث صار الانتماء القبلي أقوى من الانتماء للدولة، وأقرب إلى الضمانة من القانون نفسه.
وفي الانتخابات، تُحسب الأصوات بالقبائل لا بالبرامج، وفي التعيينات تُوزع المناصب على أساس «توازنات» اجتماعية أكثر من الاعتماد على معيار الكفاءة.
أما المواطن، فقد أصبح يشعر أن القرب من القبيلة أهم من القرب من الوطن، وأن الولاء العشائري هو طريق الحماية والمصلحة، لا الانضباط لمؤسسات الدولة.
وقد جعل هذا الواقع المعقد الدولة، رغم حداثة مؤسساتها، تبدو مخترقة من الداخل بروح ما قبل الدولة، وهو ما عبّر عنه الرئيس الغزواني بوضوح حين أعلن أن زمن التسامح مع هذه الممارسات قد انتهى.
ويُجمع المراقبون على أن خطاب انبيكت لحواش هو الأكثر وضوحاً في تحديد خطوط التماس بين الدولة والقبيلة، لكنه في الوقت ذاته يضع النظام أمام اختبار صعب: كيف يمكن تفكيك منظومة القبلية من دون أن تنهار معها شبكة التوازنات التي يقوم عليها المجتمع؟
فالقبلية في موريتانيا ليست مجرد حالة اجتماعية، بل ثقافة متجذرة في النفوس، تمتد من المجالس الأهلية إلى المكاتب الحكومية، ومن الولادات إلى الجنائز.
ولذلك، فإن أي محاولة لكسرها دون إصلاح اقتصادي عميق وإعادة توزيع عادلة للفرص قد تُنتج مقاومة صامتة أو التفافاً خفياً من داخل مؤسسات الدولة نفسها.
ويفتح خطاب الغزواني حول القبلية، الباب أمام تساؤلات عميقة حول قدرة النظام على ترجمة هذه الصرامة إلى إجراءات عملية، في مجتمع ما تزال القبيلة فيه جزءاً من النسيج السياسي والاجتماعي.
لكن من المؤكد أن الرئيس، وهو يختار أقصى الشرق الموريتاني لإطلاق رسالته، أراد أن يقول بوضوح إن زمن الحذر قد انتهى، وأن الدولة قررت أن تواجه جذور التخلف الاجتماعي بمنطق القانون لا بالمجاملات العرفية.
الرئيس الموريتاني يعلن قطيعة نهائية مع القبلية

تعليقات الزوار
لا تعليقات