أخبار عاجلة

تونس تضبط إيقاع العمل الجمعياتي في مواجهة التمويل الأجنبي

في خطوة جديدة ضمن مسار مكافحة الفساد المالي وضبط الانفلات الجمعياتي، قررت السلطات التونسية، تعليق نشاط المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمدة شهر، وذلك بعد أسبوع من قرار مماثل شمل الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات.

 وتأتي هذه الإجراءات في إطار حملة متصاعدة تسعى إلى إعادة تنظيم قطاع الجمعيات وتدقيق مصادر تمويلها، تنفيذًا لتوجيهات الرئيس التونسي قيس سعيّد الذي جعل من شفافية التمويل ورفض التدخل الأجنبي أحد ركائز مشروعه السياسي لحماية السيادة الوطنية.

مقاربة متوازنة بين التنظيم والحرية

السلطات التونسية أكدت أن قرار التعليق ليس استهدافًا للعمل الجمعياتي أو الحريات المدنية، بل إجراء إداري وقانوني يستند إلى المرسوم رقم 88 لسنة 2011 المنظم للجمعيات. ووفقًا لبيانات رسمية، تهدف هذه التدابير إلى فرض الشفافية المالية، وضمان أنشطة الجمعيات ضمن الأطر القانونية، بما يحول دون استغلالها كقنوات غير شرعية للتمويل أو التأثير السياسي.

وفي المقابل، عبّر المنتدى التونسي وجمعية النساء الديمقراطيات عن تفاجئهما من قرارات التعليق، مؤكدين أن تمويلاتهما “قانونية وموثقة لدى الجهات الرسمية”، وأن عمليات التدقيق الجاري تنفيذها “مكثفة وغير مبررة”.

لكن المراقبين يرون أن الدولة تسعى إلى وضع حدود واضحة بين النشاط المدني المشروع والعمل السياسي المموّل من الخارج، في ظل تصاعد الشبهات حول تلقي بعض الجمعيات دعمًا من جهات أجنبية لها مصالح في التأثير على القرار التونسي أو في توجيه الرأي العام.

ومنذ توليه الرئاسة، شدد قيس سعيّد مرارًا على أنه ليس ضد المجتمع المدني ولا ضد حرية التنظيم، بل ضد “تحويل الجمعيات إلى أدوات للارتزاق أو للتجسس السياسي”.

وقال في أكثر من خطاب: “نحن مع العمل الجمعياتي الحرّ، ولكن في إطار القانون، لا أن تتحول الجمعيات إلى دولة داخل الدولة، أو وسيلة لضرب الدولة من الداخل.”

ويعتبر الرئيس أن الفوضى التي عرفها المشهد الجمعياتي منذ 2011 كانت أحد المنافذ التي استغلها الفساد المالي والسياسي للتغلغل في مفاصل الدولة، وأن ضبط التمويل الأجنبي هو شرط لاستعادة هيبة القانون وثقة المواطن في مؤسسات الدولة.

وينصّ المرسوم عدد 88 لسنة 2011 على أن الجمعيات يمكنها الحصول على تمويلات أجنبية، لكنه في الوقت ذاته يضع ضوابط صارمة لذلك، فالمادة 35 منه تنصّ على أنه "يُحجَّر على الجمعيات قبول مساعدات أو تبرعات أو هبات صادرة عن دول لا تربطها بتونس علاقات دبلوماسية أو عن منظمات تدافع عن مصالح تلك الدول".

ورغم وضوح النص، إلا أن تطبيقه ظلّ مرنًا ومتناقضًا خلال السنوات الماضية، حيث لم تُفعَّل آليات المراقبة والمساءلة المالية بالشكل الكافي، ما سمح بتنامي شبكات التمويل الخارجي غير الشفاف، وأدى في أحيان إلى تداخل العمل المدني مع أجندات حزبية أو أجنبية.

السلطات اليوم، بإشراف مباشر من رئاسة الجمهورية، تعمل على إعادة تفعيل هذا الإطار القانوني وضبط مسالك التمويل، من خلال تدقيق شامل للحسابات والوثائق المالية للجمعيات والمنظمات. وتأتي هذه الخطوة ضمن رؤية شاملة لمكافحة الفساد وتحصين القرار الوطني من أي نفوذ خارجي.

بين الأمن والسيادة

يربط الرئيس سعيّد ملف التمويل الأجنبي بمسألة الأمن القومي بشكل مباشر، معتبراً أن بعض الجمعيات “تحولت إلى أذرع لجهات خارجية تعمل على ضرب الدولة وإضعاف مؤسساتها”.

ويرى أن “من لا يملك سيادة مالية لا يملك قراراً وطنياً”، وهو ما يفسر إصراره على تجفيف منابع التمويل المشبوه، مع الحفاظ على حق الجمعيات الجادة في ممارسة نشاطها بحرية.

ويرى محللون أن هذه المقاربة تعبّر عن تحول في فلسفة الدولة التونسية تجاه العمل الجمعياتي: من مرحلة التراخي والمحاباة التي ميزت السنوات السابقة، إلى مرحلة المحاسبة والشفافية والضبط. لكنها في الوقت ذاته تحاول الحفاظ على التوازن بين الحرية والمسؤولية، حتى لا تُفسر الإجراءات على أنها تقييد للمجتمع المدني.

سيادة الدولة فوق كل اعتبار

منذ أشهر، صعّد الرئيس التونسي من خطابه ضد أي تدخل خارجي في الشأن الوطني، مؤكداً أن "القرارات التونسية تُتخذ في تونس، لا في عواصم أجنبية".

ويعتبر أن مكافحة التمويل الأجنبي المشبوه جزء من معركة أوسع ضد الفساد وتبعية القرار، سواء في الاقتصاد أو في المجتمع المدني.

ويربط مراقبون بين هذه الحملة وبين التحقيقات الجارية في عدد من الملفات المالية الكبرى، التي تستهدف شبكات يُشتبه في حصولها على تمويلات خارجية تحت غطاء الجمعيات أو المشاريع التنموية.

ورغم الجدل الذي أثارته قرارات التعليق الأخيرة، فإنها تأتي في سياق إصلاحي أوسع يهدف إلى إعادة هيكلة العمل الجمعياتي بما ينسجم مع متطلبات الدولة الحديثة.

وفي حين يرى منتقدو الإجراءات أنها قد تُضعف النسيج المدني، يعتبر مؤيدوها أنها ضرورية لاستعادة هيبة القانون وتحصين السيادة الوطنية.

وبين هذين الرأيين، يواصل الرئيس قيس سعيّد نهج الإصلاح الصارم المتوازن: مكافحة الفساد والتمويل المشبوه من جهة، وضمان حرية العمل الجمعياتي النزيه من جهة أخرى، وفق قاعدة واضحة مفادها أن الحرية لا تتعارض مع القانون، والسيادة ليست قابلة للمساومة.

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات