حضرت الأسبوع الماضي جنازة أحمد طالب الإبراهيمي، بمقبرة سيدي محمد وسط حي بلكور الشعبي، الذي كان قد دفن فيه الأب البشير الإبراهيمي قبله، في جنازة مهيبة عاشتها الجزائر في صيف 1965. على غرار جنازة الابن أحمد 1934-2025، التي حضرها الكثير من الوجوه من مختلف المسارات السياسية، لم التق بها منذ فترة طويلة. كان من بينهم علي بن فليس ومولود حمروش وعبد العزيز بلخادم، إذا اكتفيت بهذه الفئة من النخبة السياسية المتمثلة في رؤساء الحكومات. زيادة على عديد الوزراء والقيادات الحزبية والوجوه الإعلامية من مختلف الأجيال التي عرفت الإبراهيمي، أو اشتغلت معه في مختلف المواقع المهنية، التي كانت من نصيبه، كان من بينها من الرسميين وزير الخارجية الحالي أحمد عطاف الذي عمل مع طالب بوزارة الخارجية وهو يسيرها بين 1982-88 في عهد الرئيس بن جديد.
عادت بي الذاكرة وأنا أعاين هذه الوجوه من النخب السياسية الحاضرة في المقبرة إلى شخصيات أخرى غيبها الموت في فترات سابقة، عادة ما كان المواطن الجزائري يتحسر عليها بعد غيابها، كما كان الحال مع آيت أحمد حسين، وعباس فرحات، وعبد الحميد مهري، هو الذي لم يعمل الشيء الكثير لدعمها في مواقفها السياسية، وهي حية ترزق، تركها وحدها في مواجهة نظام، يدعي بعد فوات الأوان، أنه لم يكن موافقا على سياسته، بل كان ضده ومعارضا له!
شخصيات وطنية كان بإمكانها الوصول الى مواقع سياسية مهمة مثل رئاسة البرلمان، أو مجلس الأمة والكثير من المواقع الاستشارية الأخرى بالإجماع الوطني الذي تحظى به، والتجربة السياسية التي تملكها، بعد ابتعادها عن المواقع التنفيذية، كما تفعل الكثير من الأنظمة السياسية في العالم، التي توجه مثل هذه الوجوه نحو الاستشارة، أو التعليم العالي، على سبيل المثال، كان يمكن أن تفيد الجزائر والجزائريين في تلافي الكثير من العراقيل السياسية والأزمات، بخبرتها والإجماع الذي تحظى به بين الجزائريين، حصل تهميشها بالعكس، اكتفت في الغالب بالاستقبالات، التي كانت تقوم بها في بيتها لبعض المعارف والأصدقاء، أو من يطلب اللقاء بها. لقاءات عادة ما تقل، بل تختفي عندما يشم الزوار رائحة المعارضة لدى هذه الشخصية السياسية، وعدم رضا السلطة على مواقفها، كما حصل في الكثير من الأحيان مع زوار عبد الحميد مهري، أو عباس فرحات الذي كان لسنوات تحت الإقامة الجبرية داخل بيته بالعاصمة، في عهد حكم الرئيس بومدين، بعد تجربة السجن التي عاشها مع الرئيس بن بلة، لتعيش كل هذه الوجوه مقاطعة إعلامية صارمة قام بها التلفزيون والإذاعة والجريدة المكتوبة، زاد منسوبها لتصل الغلق الكلي في السنوات الأخيرة، ظهرت بشكل وقح في المقبرة وهي تودع أحمد طالب الى مثواه الأخير.
سنأخذ كمثال عن هذا الهدر السياسي، الذي تعرضت وما زالت النخبة السياسية في الجزائر من خلال حالة مولود حمروش، الذي تقاعد عن العمل السياسي الرسمي بعد تجربة رئاسة الحكومة القصيرة – بين سبتمبر 1989 ويونيو 1991 وهو في عمر لم يتجاوز 48 سنة، بعد التجربة التي عاشها برئاسة الجمهورية ومصالح الحكومة، كأمين عام في الحالتين، بالقرب من الرئيس الشاذلي بن جديد، بعد محطة مديرية البروتوكول مع الرئيس بومدين، الذي قربه منه كما فعل مع الكثير من أبناء جيش التحرير، الذي التحق به الشاب مولود صغيرا جدا – 16 سنة على تراب الولاية الثانية قبل التوجه الى تونس، ومن هناك نحو العراق لإنجاز تدريب عسكري في مجال المدرعات، أكمله بدراسة جامعية متخصصة في مجال العلوم السياسية بالجزائر وبريطانيا. قام به هذا الشاب ابن الوسط الاجتماعي الفقير بعد الاستقلال، وسط عُرف فيه أبناء عائلة حمروش القسنطينية بالتحاقهم المبكر بثورة التحرير، على رأسهم كان الأب الشهيد، الأخت والأخ.
إهدار للنخب السياسية القليلة أصلا يقوم به النظام السياسي الجزائري بعد الاستقلال قد يكون من أسبابه الرئيسية عدم قدرة هذا النظام على إنتاج مؤسسات يحصل داخلها الصراع والتنافس السياسي، يكون فرصة في التعرف على هذه النخب بأفكارها ومشاريعها، التي فشلت في الغالب في تجسيدها نتيجة الإقصاء المبكر الذي تعرضت له، فضلت الدخول الى الدار كما شاع عند هذه النخب السياسية وهي تتحدث عن نهاية مشوارها السياسي المبكر، داخل مؤسسات نظام تعوّد على الإجهاز على أبنائه، رغم محاولة مولود حمروش العودة إلى السطح السياسي في أكثر من مرة، دون نجاح كما كان الحال حين ترشح لرئاسيات 1999 التي انسحب منها ليلة إجرائها مع مجموعة من المرشحين، من بينهم كان حسين آيت، الذي تقرب منه مولود حمروش – بمعية عبد الحميد مهري – في أكثر من محطة وموقف، رغم الإعاقة التي استمرت تلاحقه، عبرت عن نفسها في الفشل في بناء قوة سياسية ذاتية، لم ينجح في الحصول عليها داخل حزبه – جبهة التحرير – الذي وجد داخله منافسة كبيرة من قبل عصب سياسية مناوئة لبرنامجه الإصلاحي، الذي تبنته وروجت له قوى اجتماعية تنتمي للفئات الوسطى في الغالب، حاول أن يقحمها في معارك العمل الحزبي، التي لم تتعود عليه، اعتمد عليها مولود حمروش في الترويج وتطبيق إصلاحاته السياسية والاقتصادية الجريئة، التي انطلق فيها منذ فترة تكوين مجموعات الإصلاحات برئاسة الجمهورية، التي سخرها بالقرب من الرئيس الشاذلي للترويج لمشروعه. وجد هناك كذلك من ينافسه ويعرقله، كما كان حال الجنرالين خالد نزار والعربي بلخير. نجح رغم ذلك مولود حمروش رئيس الحكومة في تجسيد الجزء الأساسي منه في وقت قصير وظرف سياسي مضطرب، بعد المصادقة على دستور فبرابر1989 الذي يُعد من أحسن الدساتير التي عرفتها الجزائر، بضعف حمولته الأيديولوجية وطابعه الليبرالي الواضح، الذي مكًن المشرع من إصدار قوانين عضوية لتطبيقه. تميزت بها الحالة الجزائرية، قبل انطلاق تجربة الربيع العربي بسنوات. وهي تقفز إلى مصاف التجارب الديمقراطية، في أكثر من مجال على غرار قطاع النشاط النقابي بحق الإضراب، وتكوين النقابات المستقلة الذي منحه للعمال في القطاعين العام والخاص، زيادة على فتح المجال الإعلامي المكتوب لأول مرة في الجزائر، وإصدار قوانين دعم المبادرة الخاصة في القطاعات الاقتصادية، كان وراءها الرجل الذي كسب صداقات قليلة، وعداوات أكبر داخل مؤسسات النظام الذي استعصى على التغيير، خلال هذا الظرف الأمني والمالي الصعب الذي انطلقت فيه الإصلاحات، كان العدو الأساسي فيها انعدام الوقت أمامها وضعف الدعم الشعبي لها، نتيجة عدم الشفافية التي تم تطبيقها بها، بعيدا على المواطن الجزائري، الذي بقي يتفرج من بعيد. لما ظهر له كصراع لا يعنيه بين نخب متنافسة على السلطة.
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لا تعليقات