أخبار عاجلة

غزة أصبحت الموطن الأكبر للأطفال مبتوري الأطراف

في غرفة صغيرة مظلمة داخل أحد المستشفيات المدمرة جزئيًا في مدينة غزة، تجلس الطفلة لين عوض على سرير معدني صدئ، تتأمل قدمها اليمنى السليمة وهي تهزها ببطء، بينما تغطي ساقها اليسرى المبتورة بغطاء رقيق. بعينيها البريئتين المليئتين بالدموع تقول لـ»لقدس العربي»: «فقدت قدمي اليسرى.. أريد قدمًا تعويضية لقدمي التي فقدتها في القصف.. أتمنى أن أستطيع المشي مرة أخرى». كلماتها الموجعة تختصر حجم الألم الذي يحمله أطفال غزة، الذين انتُزعت منهم براءة اللعب والركض، واستبدلت بأوجاع العجز والقيود.

حكاية لين

والدة لين، أماني عوض، تروي تفاصيل تلك الليلة السوداء التي غيرت مسار حياتهم: «عندي ولد وبنت تعرضا للإصابة في قصف على منزلنا في مدينة غزة. حاولنا أن نسعفهما بأسرع وقت ممكن. إمكانيات الإسعاف لم تكن جيدة. وصلنا بصعوبة إلى مستشفى الشفاء، تحت وابل من النيران والاستهداف في جنح الليل». تقول الأم وهي تشد على يد طفلتها المبتورة، إن صورة الدماء التي سالت على أرض المنزل لا تفارق ذاكرتها، وإن رائحة البارود امتزجت بأنين الأطفال وصراخ الجيران.

في المستشفى، كان القرار صاعقًا للأم. فالأطباء لم يجدوا بديلًا عن بتر قدم لين لإنقاذ حياتها. تروي أماني لـ»القدس العربي»: «قالوا لنا إن قدمها تالفة بالكامل، وليس هناك خيار آخر. لم أستوعب الأمر في البداية. تمنيت أن أُصاب بدلًا منها، لكنها خرجت من غرفة العمليات بلا قدم». ومنذ تلك اللحظة تحوّل بيت العائلة إلى فضاء يملؤه الصمت والدموع، حيث لم تعد ضحكات الأطفال كما كانت.
لين، ذات الأعوام التسعة، تجد صعوبة بالغة في تقبل واقعها الجديد. فهي تحاول الزحف داخل البيت، بينما تنظر من النافذة إلى أقرانها الذين ما زالوا يلعبون في الأزقة رغم أصوات الطائرات. تقول أماني: «كل يوم تسألني عن القدم التعويضية، وكل يوم أخبرها أن المعابر مغلقة ولا علاج متاح. أشعر أنني عاجزة أمام طفلة صغيرة لا ذنب لها».

أرقام مرعبة

ليست لين وحدها من فقدت أحد أطرافها. فحسب تقديرات أممية وتقارير لمنظمات إنسانية، فإن حرب الإبادة الدائرة منذ تشرن الأول / أكتوبر 2023 وحتى أيلول / سبتمبر 2025 جعلت من غزة موطنًا لأكبر عدد من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ الحديث. وتشير تقديرات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية إلى أن ما بين 3000 و4000 طفل فقدوا أطرافهم جراء القصف المباشر.
تتضاعف المأساة مع حرمان هؤلاء الأطفال من حقهم في العلاج في الخارج. فالمعابر التي يُفترض أن تكون نافذة أمل تحولت إلى جدار مغلق في وجوههم، رغم أن كثيرين منهم حصلوا على تحويلات طبية رسمية لمستشفيات دولية. لكن الحصار جعل الحلم بالشفاء مؤجلًا إلى أجل غير معلوم.
وفي ظل هذا الحصار، يجد الأطباء أنفسهم أمام خيار واحد هو البتر لإنقاذ الحياة. فلا أطراف صناعية متوفرة، ولا معدات جراحية حديثة قادرة على إنقاذ الأطراف المصابة. وهكذا، يصبح الطفل أسير عجز دائم، محرومًا من أبسط حقوقه في الحركة واللعب، لتتضاعف آلامه الجسدية والنفسية في آن واحد.

جراح بلا دواء

يؤكد زاهر الوحيدي، مدير وحدة المعلومات في وزارة الصحة الفلسطينية، إن نسبة كبيرة من الإصابات الناتجة عن الحرب على غزة كانت خطيرة، وأدت إلى مئات حالات البتر بين الأطفال والنساء. ويوضح أن حوالي 15 في المئة من الإصابات كانت في غاية الخطورة، وأن 18 في المئة من ضحايا البتر كانوا من الأطفال، وهو رقم صادم يعكس حجم الاستهداف الممنهج للفئات الأضعف.
ويضيف الوحيدي، في تصريح لـ»القدس العربي»، أن النسبة الأكبر من عمليات البتر تركزت في الأطراف العلوية بنسبة 76 في المئة، فيما سُجلت بتر الأطراف السفلية بنسبة 24 في المئة. ويشير إلى وجود أكثر من 160 حالة بتر مزدوجة، ما يعني أن أطفالًا كثيرين وجدوا أنفسهم بلا قدمين أو بلا ذراعين، محكومين بالجلوس على كراسٍ متحركة مدى الحياة. أما النساء فشكّلن ما نسبته 8 في المئة من إجمالي حالات البتر، وهو ما يعكس شمولية الاستهداف.
ويبين الوحيدي أن كثيرًا من الإصابات كان بالإمكان علاجها بطرق أخرى لولا نقص الإمكانيات. فغياب الأجهزة الطبية الحديثة، وندرة الأدوية، ونقص الكوادر المتخصصة، كلها عوامل أجبرت الأطباء على اللجوء لقرار البتر السريع لإنقاذ حياة المصاب. «هذه ليست خيارات طبية مثالية، لكنها ظروف قاهرة تفرض على الأطباء قرارات موجعة»، يقول الوحيدي. ويؤكد أن وزارة الصحة في غزة تعمل بأدنى الإمكانيات الممكنة، حيث تقتصر العمليات الجراحية على إنقاذ الحياة فقط. فلا وجود لغرف عمليات مجهزة بشكل كافٍ، ولا معدات كافية لإجراء جراحات دقيقة تحفظ الأطراف. ومع استمرار الحرب والحصار، تزداد قائمة المبتورين يومًا بعد يوم، فيما تصغر فرص الأمل بالعلاج أو التعويض.

أحلام مبتورة

في أحد مخيمات النزوح في مدينة خان يونس، يعيش الطفل آدم شحادة، البالغ من العمر 12 عامًا، تجربة لا تقل قسوة. أصيب آدم في قصف استهدف منزل عائلته، وأدى إلى بتر ذراعه اليمنى. منذ ذلك اليوم، لم يعد قادرًا على ممارسة أبسط أنشطة الطفولة. والدته تقول لـ»القدس العربي»: «كان آدم يعشق الرسم والكتابة، وكان يحلم أن يصبح مهندسًا، لكن اليوم لا يستطيع حتى إمساك قلم».
يحاول آدم أن يتأقلم مع وضعه الجديد، لكنه يواجه تحديات يومية. فغياب الذراع التعويضية جعله عاجزًا عن القيام بمهام أساسية مثل ارتداء ثيابه أو تناول طعامه. يقول بصوت خافت: «أريد أن أعود للمدرسة مثل أصحابي، لكنني أخجل أن يروني هكذا. أريد يدًا جديدة، فقط يد أكتب بها وأرسم».
وحاولت العائلة مرارًا الحصول على تحويلة طبية لعلاج آدم في الخارج، لكن دون جدوى. توضح الأم: «ذهبنا إلى مكاتب الصليب الأحمر أكثر من مرة، وأخبرونا أن السفر متعذر بسبب إغلاق المعابر. كل ما نريده طرفًا تعويضيًا يعيد لابني شيئًا من حياته». وتشير إلى أنها لجأت إلى الجمعيات الخيرية المحلية للحصول على عكازات أو أدوات مساعدة، لكن الاحتياجات أكبر بكثير من المتاح.

صرخة إنسانية

يقول مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إن قطاع غزة أصبح يحوي أكبر عدد من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ الحديث. ويشير المكتب إلى أن الحصار ونقص الموارد الطبية أجبر الأطباء على اللجوء لعمليات البتر بشكل متكرر، في وقت لا تتوفر فيه إمكانيات لتوفير الأطراف التعويضية أو برامج إعادة التأهيل.
ويحذر المكتب الأممي من أن آلاف الأطفال في غزة مهددون بمستقبل معتم إذا لم يتم التدخل العاجل لتأمين الرعاية الطبية والنفسية لهم. فغياب الأطراف التعويضية لا يعني فقط حرمانهم من الحركة، بل يعني أيضًا تدمير أحلامهم في التعليم والعمل والحياة الطبيعية مستقبلًا.
من جانبه، يناشد المسؤول في وزارة الصحة زاهر الوحيدي المجتمع الدولي والعالم أجمع التدخل السريع لإنقاذ هؤلاء الأطفال: «لا يجوز أن يبقى أطفال غزة أسرى للعجز، محرومين من أبسط حقوقهم في العلاج والحياة الكريمة». مطالبًا بفتح المعابر فورًا أمام الحالات الإنسانية، وتأمين الأطراف الصناعية والأجهزة المساندة لهم.

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات