تشهد الساحة الموريتانية موجة استنكار غير مسبوقة عقب اعتقال رئيس منظمة الشفافية الشاملة، السيناتور محمد ولد غده، ليلة أمس الأحد، في خطوة فجّرت جدلاً واسعاً حول مسار ملف مختبر الشرطة الجنائي، بعد أن أعلن المعني اعتراضه الصريح على قرار النيابة طيّ هذا الملف المثير، ولوّح بنقله إلى القضاء البريطاني.
وأعاد هذا الاعتقال، الذي جاء في سياق قضية تتشابك فيها الاعتبارات القانونية بالأسئلة الحقوقية والسياسية، إلى الواجهة النقاش حول استقلال القضاء، وحدود محاسبة المؤسسات، وحماية المبلغين عن الفساد، وسط تضامن متزايد من هيئات حقوقية وفاعلين سياسيين ومدنيين.
واستنكرت الأوساط السياسية والإعلامية والحقوقية في موريتانيا، توقيف رئيس منظمة الشفافية الشاملة، السيناتور السابق محمد ولد غده، بعد ساعات فقط من إعلانه نيته التقدم بشكاية جديدة مدعومة بالوثائق أمام النيابة العامة، على خلفية ما يُعرف بملف “صفقة المختبر الجنائي للشرطة”.
وانتقد المحتجون على اعتقال السيناتور غده قيام عناصر من الشرطة الموريتانية بزي مدني باقتحام منزل ولد غده في حدود منتصف الليل إلا عشر دقائق، واقتادوه دون تقديم أي استدعاء أو إذن قضائي يبرر التوقيف.
وأضاف مصدر من الشرطة أن عناصر الشرطة رفضوا انتظار إبلاغ المعني بحضورهم، وقاموا باقتحام المنزل مباشرة، وهو ما أثار تساؤلات حول احترام الإجراءات القانونية وحرمة المساكن. ويأتي توقيف ولد غده بعد تصريحات أدلى بها مساء الجمعة، أكد فيها أن منظمة الشفافية الشاملة تعتزم التقدم اليوم الإثنين بشكاية جديدة أمام النيابة العامة، تتعلق بما وصفه بـ “التجاوزات الخطيرة” في صفقة إنشاء المختبر الجنائي للشرطة الموريتانية. وقال ولد غده “إن منظمته فوجئت بقرار النيابة العامة “حفظ الدعوى العمومية” في الملف، رغم تقديم وثائق تثبت تورط أطراف في تقديم وتلقي رشاوى مرتبطة بالصفقة، حسب تعبيره.
وأوضح السيناتور غده “أن منظمته تعاملت بحذر مع شرطة الجرائم الاقتصادية، وقدمت لها فقط جزءًا من الوثائق التي بحوزتها”، مؤكداً “أن الملف الكامل، الذي يتضمن أدلة إضافية، كان من المقرر عرضه على النيابة العامة يوم الإثنين”.
وطالب باستبعاد جهاز الشرطة من التحقيق في القضية، معتبراً أنه “طرف مباشر” فيها، الأمر الذي يمسّ مبدأ الحياد ويضعف مسار العدالة، داعياً إلى إحالة الملف إلى الدرك الوطني بدل الشرطة.
كما شدد على أن المنظمة ستقوم، في حال الإبقاء على قرار حفظ الدعوى، بإعداد تقرير مفصل مدعوم بالأدلة ونشره للرأي العام، ملوّحاً كذلك بعرض الملف أمام القضاء البريطاني في لندن مطلع كانون الثاني/ يناير المقبل.
وانضم النائب البرلماني يحيى اللود إلى الأصوات المنتقدة لتوقيف رئيس منظمة الشفافية الشاملة، معتبراً أن ما جرى يطرح تساؤلات جوهرية حول جدية الدولة في محاربة الفساد.
وكتب اللود في تدوينة له: “كيف يمكن إقناع شعبنا وشركائنا الدوليين بأننا نخوض حرباً حقيقية ضد الفساد، بينما نعتقل ونطارد المبلّغين أكثر مما نطارد المفسدين؟”، مضيفاً أن الخطاب الرسمي حول مكافحة الفساد لا ينسجم – بحسب تعبيره – مع ممارسات إغلاق الملفات وتسريع الإجراءات القضائية دون تحقيقات معمقة وجادة، “وكأن الغاية ليست كشف الحقيقة بل طيها”.
ووصف النائب اعتقال السيناتور السابق محمد ولد غده في ساعة متأخرة من الليل، وبتلك الطريقة، بأنه ليس إجراءً عادياً ولا رسالة إيجابية، معتبراً أنه يمثل – على حد تعبيره –”عودة صريحة بالبلاد عقدين إلى الوراء، إلى زمن البوليس السياسي وزوّار الليل”. واعتبر اللود أن ما جرى يشكل انتكاسة خطيرة لحرية الرأي والتعبير، ويتناقض بشكل صارخ مع الخطاب الرسمي حول دولة القانون ومحاربة الفساد، محذراً من أن مثل هذه الممارسات لا تحارب الفساد بقدر ما تحميه، وتُقوّض ما تبقى من ثقة المواطنين في العدالة والمؤسسات.
وكانت النيابة العامة قد أصدرت بياناً رسمياً أكدت فيه أن التحقيق الإداري والفني، الذي فُتح على مستوى الإدارة العامة للأمن الوطني بخصوص الصفقة المبرمة مع شركة GENOMED البريطانية، خلص إلى عدم تسجيل أي خروقات قانونية أو خسائر تضر بالمصلحة العامة.
وأوضح البيان أن جميع الالتزامات التعاقدية تم الوفاء بها، وأن الخدمات أنجزت وفق ما هو متفق عليه، كما لم يُلاحظ أي تورط محتمل لأي جهة تابعة للشرطة.
وأضافت النيابة أنه بعد إحالة المسطرة ودراستها والاستماع إلى المشمولين بها، تبيّن أن الوقائع الواردة لا تشكل أفعالاً مجرّمة، وبناءً عليه تقرر حفظ الدعوى.
وتعود بداية قضية “صفقة مختبر الشرطة” إلى منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2024، حين أكدت وكالة الأخبار الموريتانية المستقلة في تحقيق لها “أن تكلفة إنشاء المختبر تضاعفت بفعل عمولات قُدرت بنحو 2.5 مليون يورو ونصف مليون دولار”.
وبحسب ما نُشر حينها، تسلم الوزير السابق سيدي ولد ديدي، الذي عرّف نفسه ممثلاً عن مدير الأمن العام، نحو 1.5 مليون يورو ونصف مليون دولار، فيما حصل وسيطان هما أحمد الشيخ والسني عبدات على 300 ألف يورو لكل واحد منهما.
وأثار توقيف ولد غده ردود فعل متباينة، أبرزها موقف القيادي الإسلامي ورئيس حزب “جمع” محمد جميل منصور، الذي أكد أن الاتهام لا يُعد اتهاماً إلا إذا صدر عن جهة قضائية، وأن الأصل هو البراءة، لكنه في المقابل استنكر توقيف شخص أعلن صراحة عزمه اللجوء إلى القضاء وتقديم وثائق جديدة، داعياً إلى احترام مبدأ فصل السلطات وتصحيح الخطأ بالتراجع عنه.
من جانبه، وصف الإعلامي أحمد مصطفى ما جرى بأنه “خطوة طبيعية كانت منتظرة بعد حفظ الدعوى”، لكنه اعتبر اقتحام منزل ولد غده ليلاً دون وثيقة قضائية “انتهاكاً مرفوضاً لحرمة المساكن”.
أما مدير الوكالة الموريتانية للصحافة، عبد الله الفاغ مختار، فرجّح أن يكون توقيف ولد غده مرتبطاً بتصريحاته التي شكك فيها في نزاهة جهاز الشرطة، واعترف بإخفاء وثائق عن المحققين، وهدد بنقل الملف إلى بريطانيا، معتبراً أن تلك التصريحات قد تُفهم على أنها تنقيص من العدالة.
وأضاف أن جهات قريبة من الملف تجزم بأن ولد غده لا يملك من الأدلة سوى ما قدمه خلال التحقيق، وأنه لجأ – وفق رأيها – إلى التشكيك في نزاهة الشرطة لإعطاء القضية مساراً آخر.
ويعيد توقيف رئيس منظمة الشفافية الشاملة إلى الواجهة النقاش حول حدود حرية العمل المدني، واستقلال القضاء، وضمانات المحاكمة العادلة، خاصة عندما يتعلق الأمر بملفات فساد كبرى تمس مؤسسات سيادية.
وبين رواية منظمة ترفع شعار الشفافية وموقف رسمي يؤكد سلامة الإجراءات، يبقى مصير ملف “مختبر الشرطة” مفتوحاً على تطورات جديدة، في انتظار ما ستسفر عنه الساعات والأيام القادمة من توضيحات قانونية وقضائية.
عاصفة استنكار واسعة في موريتانيا احتجاجاً على اعتقال محمد ولد غده رئيس منظمة الشفافية

تعليقات الزوار
لا تعليقات