أعرف أن حالة الجامعة الجزائرية ليست على أحسن ما يرام، لكن أن تصل إلى وضع يتم فيه الاعتداء على أبسط الحريات الأكاديمية، فهذا ما لم أكن أتصور حدوثه في جزائر 2025 وفي جامعة بجاية بالذات، التي تم فيها رفض مناقشة أطروحة دكتوراه في قسم علم الاجتماع بجامعة عبد الرحمن ميرة ببجاية، حول الحركة الأمازيغية للطالب سمير لرابي المعروف بإنتاجه العلمي في الموضوع، بحجة وجود تقرير للشرطة تمنع مناقشة أطروحته ـ الطالب صاحب الأطروحة كذّب وجود هذا التقرير – وهو يتحدى إدارة الجامعة أن ترفع ضده قضية أمام العدالة بتهمة التشهير، إذا تأكد أن ما كتبه في رسالته التي وجهها للرأي العام الجزائري حول قضيته غير صحيح، لإيمانه بعدالة موقفه، وهو يذكر أنه وتحت ضغط إدارة الجامعة، تنازل عن حقوقه كباحث وأدخل تغييرات على محتوى الأطروحة، كما طُلب منه تحت الإكراه، حتى تتسنى له مناقشة بحثه الذي طال انتظاره.
رغم هذا يقول الطالب الأمور لم تسر كما كان يأمل، وتم رفض مناقشة الأطروحة، بحجة جديدة هذه المرة تحت مسمى «حساسية الموضوع» المطروح (الحركة الأمازيغية كمكون أساسي من الحركات الاجتماعية) ومعاداة محتواها لقيم الدستور الجزائري ومنطوق مادته التاسعة تحديدا، وكأن المطلوب من الجامعة وفي أقسام العلوم الاجتماعية والإنسانية تحديدا ألا تناقش، إلا المواضيع غير الحساسة والمتفق عليها التي لا تثير النقاش والتساؤل.
يتم هذا في جامعة بجاية، التي عرفت إلى وقت قريب كحاضنة قوية للحركة الأمازيغية، بالنقاشات التي عرفتها والمواقف التي تبنتها الحركة الطلابية والنقابية داخل أسوارها لسنوات عديدة. أدت في الأخير إلى الاعتراف بهذا المكون الأساسي للشخصية الجزائرية، عبر دسترة اللغة الأمازيغية في الجزائر، خلال مرحلة التعددية على دفعتين -2002-2016. تأكيدا للتوافق الذي حصل بين الجزائريين حولها كلغة وطنية ثانية، عاشت لقرون في تناغم كبير مع اللغة العربية، في كامل التراب الوطني، وليس في منطقة القبائل فقط، التي كان لنخبها العصرية الفضل في رفع لواء المطلب لسنوات.
نجاحات قد تفسِّر بروز هذا التيار الانعزالي داخل هذه المنطقة بالذات، وفي المهجر بين أبنائها المقيمين خارج التراب الوطني (الماك) الداعي لتقسيم التراب الوطني الذي يمكن أن يجد ضالته في مثل هذه الممارسات النشاز الحاصلة في جامعة بجاية، وهو يستغلها وينفخ فيها. وكأننا أمام نية للدفع بهذا الباحث المتميز بمواقفه الشجاعة نحو هذا التيار، الذي فشل في الحصول على قاعدة اجتماعية في منطقة القبائل. تيار دخل معه هذا الباحث السوسيولوجي الواعد في صراعات عديدة، وهو يدافع عن مواقف عقلانية واضحة تأكيدا للهوية الوطنية الموحدة للجزائريين، في الكثير من كتاباته الأكاديمية، وعلى الوسائط الاجتماعية العديدة. في وقت تعيش فيه الجامعة الجزائرية، حالة ترهل واضحة غابت فيها مقاييس التسيير البيداغوجي العقلاني، تحت ضغط الكم الذي لم تعد تعرف كيف تسيره وماذا تفعل به. عبر تسيير سيطر فيه البيروقراطي على البيداغوجي والعلمي، كما تبينه حالة عرقلة مناقشة رسالة الدكتوراه هذه في علم الاجتماع، التي كان يمكن أن تضيف الجديد في موضوع الحركة الثقافية الأمازيغية كأحد تجليات الحركة الاجتماعية في الجزائر. المفروض أن يبقى موضوع البت فيها من اختصاص هيئة التدريس المتخصصة وحدها، والهياكل البيداغوجية المخول لها قانونا وعرفا في إبداء الرأي العلمي.
جامعة جزائرية غابت فيها مقاييس التسيير العقلاني للمورد البشري، تحولت في الغالب إلى مرتع للفساد تحت تأثير لوبيات نقابات طلابية ممثلة في ذلك «المسخ «الذي يسمى بالتنظيمات الطلابية. لم يبق تأثيرها محصورا على المستوى الطلابي والخدماتي في الأحياء الجامعية، بما يدره على قياداتها من ريع مالي، بل امتد إلى المجال البيداغوجي، الذي اخترقته عبر الضغط لتعيين مناصريها ضمن هيئة التدريس، في وقت تعرف فيها الجامعات توسعا في عدد أساتذتها. تحول التهديد بالإضراب لديها إلى عصا ترفع في وجه أي مسؤول يغامر باتخاذ مواقف لا تتوافق مع رغبات ومصالح هذه القيادات، التي يمكن أن تستمر لسنوات على رأس هذه التنظيمات، وهي تجمع بينها وبين مواقع حزبية، حفاظا على مصالحها داخل وخارج الجامعة.. ناهيك من التدخل السافر بالضغط على أسرة التدريس في قضية التقييم البيداغوجي لمريديها من الطلبة، لإنجاحهم بكل السبل القانونية وغير القانونية. اتحادات طلابية مخترقة بدورها من قبل طبقة سياسية حزبية ـ من الموالاة في الغالب- لا تتورع عن استعمالها بمناسبة العملية الانتخابية السياسية لصالح مرشحي السلطة، أكدته التجربة الانتخابية في البلد في مختلف المراحل. سيبقى النظام السياسي بتسييره الحالي في حاجة إليها ما لم يتم التخلص من هذا النوع من الانتخابات الفاقدة للمصداقية، تستعمل فيها حشود الطلبة كجمهور للتصفيق والتنقل من مهرجان انتخابي لآخر، مقابل سندويتش في آخر النهار.
جامعة جزائرية لم تعد قادرة على استقطاب الكفاءات القليلة التي تنجح في إنتاجها في مختلف التخصصات، بما فيها الدقيقة والعلوم الاجتماعية والإنسانية على قلتها. تقوم بهدرها عبر توجيهها نحو المؤسسات التعليمية والبحثية الأوروبية والأمريكية التي تعرف كيف تستفيد منها، وكيف تثمنها، كما قد يحصل للطالب سمير لرابي الذي رفضت جامعة بجاية مناقشة أطروحته، وهي تصف موضوع بحثه ببلاهة بالموضوع «الحساس». عكس المؤسسة الأكاديمية الغربية التي لم تتوقف يوما عن الاهتمام به كموضوع بحث بما يخدم مصالحها، وهي تضعه تحت مجهر البحث، تعرف انه ما زال قابلا للتطور ليس في الجزائر فقط، بل في كل شبه القارة المغاربية، كما تؤكده الحالة الليبية، التي لم تنجح في اللحاق لغاية اليوم بالمنطق الإيجابي السائد مغاربيا، كما يظهر في الحالتين الجزائرية والمغربية..
لتبقى الجامعة الجزائرية المغلقة عاجزة عن مسايرة التطورات العلمية، كما أكده ما روج في المدة الأخيرة حول تجميد الملتقيات الدولية في العلوم الاجتماعية من قبل الوزارة الوصية، بعد تحول هذه اللقاءات إلى مهرجانات مملة، من دون قيمة علمية في الغالب الأعم، لا تضيف أي جديد للبحث العلمي، إذا استثنينا شهادة المشاركة في الملتقى التي يخرج بها المشارك في مثل هذه «الزردات العلمية».
ناصر جابي

تعليقات الزوار
لا تعليقات