بدأت السفر إلى الخارج عبر الجو من حوالي أربعين سنة، عرفت فيها الجزائر تحولات من كل نوع، يبدو أنها لم تكن كافية لتغيير الطائرة الجزائرية من الداخل كسلوك فردي وجماعي، يميز الركاب الجزائريين في رحلاتهم الدولية. هذا ما اكتشفته في آخر رحلة لي قادما إلى الجزائر من الدوحة القطرية، بعد إقامة علمية في هذا البلد الآمن والمضياف. رحلة طويلة، أكثر من ست ساعات طيران، سمحت لي بالملاحظة المباشرة والدخول في أحاديث مع بعض المسافرين من «تجار الشنطة»، كما يسميهم إخواننا المصريون. القادمون من الصين عبر مطار الدوحة. يمكن التعرف عليهم بسهولة بما يتميزون به بدءا من «بالكون الشمًة» البارز على شفاههم، الذي يساعدهم على تجاوز آثار منع التدخين المفروض عليهم أثناء رحلة طيرانهم الطويلة، يلجؤون فيها إلى الشمًة الجزائرية كبديل مقبول. زيادة على كثرة الحركة بين مقاعد الطائرة لتغيير ملابسهم وسلعهم قبل النزول من الطائرة، التي تحس بأنهم يتجولون فيها بسلاسة كبيرة، لا تجد ما يشبهها عند المسافرين الآخرين.
ملاحظات أولوية يمكن أن تفيد القارئ في فهم ما نحاول التطرق له هذا الأسبوع. قد يكون على رأسها الطابع «الذكوري» للطائرة الجزائرية التي يقل فيها حضور المرأة وأفراد العائلة من الأطفال، رغم أن توقيت الرحلة صادف عطلة المدارس في قطر، ما قد يؤشر على الضعف الذي يميز الحضور الجزائري في هذا البلد الشقيق مقارنة بالجالية المغربية أو التونسية، رغم فارق الحجم الديموغرافي بين البلدان الثلاثة، الذي يبقى لصالح الجزائر. حضور بدأ يتحسن لكنه ما زال ضعيفا مقارنة بالإمكانيات البشرية النوعية المتوفرة في السوق الجزائرية، التي يمكن أن يستفيد منها الاقتصاد القطري وقطاع الخدمات فيه تحديدا، في مجالات عديدة ما زالت تفضل التوجه نحو فرنسا بدل الاستفادة مما يوفره السوق القطري لها، يمكن أن تستفيد فيه من الوضع الجيد للعلاقات السياسية بين البلدين، كما هو الحال في المجال الطبي- مثال فقط يمكن تعميمه إلى قطاعات أخرى – الذي تنتج فيها الجامعات الجزائرية فائضا من الكفاءات، يمكن أن يتوجه للعمل في قطر بدل سوء الاستقبال الذي يلاقيه في فرنسا على المستوى الاقتصادي والمالي والمهني- الإنساني.
لتبقى الطائرة الجزائرية، كما تركتها منذ أكثر من أربعين سنة تقريبا، يسيطر عليها «البزناسي من – business- الذي يسافر بوتيرة أسبوعية على هذا الخط الجوي، الذي يوصله إلى مدن الصين البعيدة، التي يتعامل معها كتاجر يملك خبرة كبيرة في اكتشاف نقاط ضعف السوق التجارية الداخلية الجزائرية، التي ما زالت تعاني من نقائص التسيير البيروقراطي الإداري للاقتصاد الوطني، بالندرة التي ما زالت تلازمه، بعد أكثر من ثلاثة عقود من التوجه الرسمي نحو اقتصاد السوق. تاجر شنطة لم يعد في مقدوره التسوق في دول أوروبا الغربية كفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، التي كان الجيل الأول من تجار «الكابة» متعود على التردد على أسواقها، لتزويد السوق الجزائرية بما ينقصها من سلع. هم الذين كانوا على رأس المكتشفين الأوائل لعيوب التسيير البيروقراطي لهذه السوق، قبل خبراء المؤسسات المالية الدولية، ما جعلهم يتوجهون نحو الاقتصادات الواعدة في قارة آسيا البعيدة، بفعل عدة أسباب قد تكون مسألة الفيزا على رأسها، بالسهولة التي يجدها من الطرف الصيني أو التركي، زيادة بالطبع على اعتبارات أخرى اقتصادية – مرتبطة بتنافسية السلع الصينية التي قضت نهائيا على وجهة مرسيليا، التي كان يفضلها الشاب الجزائري لغاية عقد الثمانينيات. لعدة اعتبارات كان من بينها العامل اللغوي الذي بذل فيه هذا الشاب صاحب التعليم البسيط، مجهودا واضحا وهو يتعلم ما تيسر من لغة صينية، يغلب عليها الطابع «الجسدي» وبعض النزر القليل من الإنكليزية العملية البسيطة، كما يمكن ملاحظته داخل الطائرة وهو يتعامل مع مضيفات الطائرة القطرية من كل الجنسيات.
هذا «البزناسي» الجزائري الذي لم تقتصر جهة واحدة من البلاد في إنتاجه، توسعت قاعدته لتشمل النساء كذلك، بعد ظهور بنات حواء كناشطات اقتصاديات داخله، نشاط عادة ما يكون وراءه أصحاب المستويات التعليمية الابتدائية والمنشأ الشعبي البسيط، الحاضر بقوة داخل الأحياء الشعبية الفقيرة، الذي استطاع أن يغيًر نحو الأحسن في الكثير من الأحيان من وضعه الاقتصادي هو وعائلته، عبر هذا النشاط التجاري الجديد على الجزائريين، كما تبينه حالة الجيل الأول التي تحسنت بشكل لافت مع الوقت، تغلب فيها على الكثير من العراقيل وهو يستعمل الكثير من الدهاء والحس التجاري، الذي وظفه لاختراق كل مؤسسات الدولة الحاضرة في المنافذ الحدودية، كما يمكن ملاحظته في سلوكياته في المطار، بعد نزوله مباشرة من الطائرة. سيكون من الصعب على سياسات الدولة الاقتصادية الجديدة إبعاده عن هذا النشاط غير الرسمي، وإدماجه في اللعبة الاقتصادية الرسمية، إذا لم تتمكن من فهم المنطق الاقتصادي الذي يحركه، جعله سريع التكيف مع متغيرات السوق بالربح المالي السريع المبني على سوق مالي غير رسمي، ما زال فيه السوق المالي الرسمي مغلقا أمامه، ما حوله عمليا إلى أحد المحركين الأساسيين للسوق المالية السوداء، التي ما زالت تفرض منطقها داخل الاقتصاد الجزائري عبر «سوق السكوار المالي» الذي تحدى كل السياسات الرسمية وهو ينشط يوميا بشكل علني بالقرب من مؤسسات الدولة السياسية المركزية، كما هو حال البرلمان بغرفتيه، الذي صادق في المدة الأخيرة على قوانين تحاول ضبط هذا النشاط وإدخاله في منطق أكثر رسمية، عبر ما سمي تجارة الكابة – الشنطة التي يقوم بها بشروط ما سمي بالمقاول الذاتي، لا بد من انتظار مخرجات تطبيق هذه القوانين على أرض الواقع، ليس كنص قانوني نظري ونوايا قد تكون حسنة، يمكن أن يتم إفسادها كما حصل مع أكثر من نص قانوني سابق، وجد في وجهه شيطان التفاصيل عند التطبيق على الأرض. في وقت تعيش فيه الساحة السياسية في الجزائر انطلاق نقاش سياسي محتشم حول هذا النص القانوني الجديد، ميزتها الخرجة النقدية التي بادر بها رئيس حزب «جيل جديد» جيلالي سفيان، الذي تخوف من الآثار السلبية العديدة لهذا القانون على الإنتاج الوطني الصناعي والاستثمارات وتهريب العملة والتضخم.
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لا تعليقات