لا يحتاج المرء أن يكون «إخوانيا» ليستغرب من التقرير الذي صدر الأسبوع الماضي في باريس، برعاية حكومية، حول الإخوان المسلمين وخطرهم المزعوم على فرنسا.
الضجة الإعلامية والسياسية في فرنسا، وفي أجزاء من العالم العربي، عقب نشر التقرير تعطي الانطباع بأن فرنسا التي نعرفها استسلمت للإخوان وأسلمت على يدهم.
يحذر التقرير من تغلغل الإخوان في الحياة العامة الفرنسية، ومحاولتهم إحكام سيطرتهم على الحياة الدينية والاجتماعية لمسلمي فرنسا. ويعتبر ذلك خطرا على فرنسا وقيمها المزعومة وعلمانيتها ومسيحيتها، إلى درجة استدعت عقد اجتماع المجلس الأعلى للدفاع بقيادة الرئيس ماكرون. خلال الاجتماع أمهل ماكرون حكومته شهرا للعودة إليه بحلول تعالج ما ورد في التقرير.
يتضمن التقرير كمّاً هائلا من المعلومات (مصدرها أجهزة الاستخبارات الفرنسية والأوروبية والعربية) تدل على الجهد الكبير الذي بُذل في إعداده. لكن هذه المعلومات تحتاج إلى التعامل معها بحذر بسبب مصدرها أولا، وطريقة توظيفها في التقرير ثانيا، وأهداف التقرير ثالثا.
من الواضح أن هدف الذين أوصوا بالتقرير ليس بحثا علميا موضوعيا بشأن الإخوان، وإنما عملاً يُدين هذا التيار وكل الإسلام السياسي في نهاية المطاف.
يتمحور التقرير حول «التغلغل» ويستعمل مصطلح ENTRISME لشرح ذلك. في النقاش العام في فرنسا يقابل التغلغل (الذي يخيف السلطات الفرنسية حسب التقرير) الانعزال (الذي كان يخيف السلطات الفرنسية قبل التقرير).
وردت في التقرير الكثير من الأرقام والبيانات منها: عدد المسلمين في فرنسا 7 ملايين، 20 في المئة منهم مواظبون على الصلاة في المساجد، أي 1.4 مليون نسمة. عدد المنتسبين لـ«الدائرة الضيقة لفرع إخوان فرنسا» حوالي «400 ولا يتجاوز في كل الأحوال ألف شخص». عدد الذين يرتادون المساجد المرتبطة بتنظيم الإخوان أو القريبة منهم، لأداء صلاة الجمعة، يناهز 91 ألفا (يعترف التقرير بأنهم ليسوا بالضرورة جميعا من الإخوان). على فرض أنهم جميعا إخوان، بعملية حسابية بسيطة نستنتج أن 91 ألفا من 1.4 مليون تساوي 6.5 في المئة، و1.3 في المئة فقط من مجموع مسلمي فرنسا. يعترف التقرير أيضا بأن من مجموع 2800 مكان عبادة في فرنسا هناك 207 مرتبط بشكل مباشر بالإخوان. حسابيا هذه نسبة لا تزيد عن 7 في المئة.
رغم أن التقرير يزعم في مقدمته بأنه مستقل وغير متأثر برؤية السلطات وتعاملها مع الإسلام في فرنسا، إلا أنه حمل مضامين تفرض الوقوف عند السياق الذي خرج فيه للنور وعند ما قاله وما لم يقله. وما لم يقله أهم.
يقرُّ التقرير بأن الإخوان تراجعوا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي حقيقة بدأت منذ انقلاب مصر بقيادة عبد الفتاح السيسي في صيف 2013، وفي تونس لاحقا ثم الكويت والأردن، وأيضا هزيمتهم المعنوية في المغرب عندما اختار القصر رئيس حكومة «إخواني» ليوقّع اتفاق التطبيع مع إسرائيل في ذروة غطرستها وحروبها على الفلسطينيين. ويزعم أن تراجعهم في الدول العربية شجعهم على التحرك في الغرب متهما تركيا وقطر بتشجيعهم.
لكن ما لم يقله التقرير قالته احتفالات أغلب الإعلام الفرنسي وبعض الإعلام العربي. ليس سرا أن دولا عربية وضعت نصب أعينها تدمير الإسلام السياسي، وليس الإخوان فقط، ومسحه من الوجود كفكر وككيانات. لا بأس، فلكل دولة سياساتها ورؤيتها، ومن حقها أن تضع من أهدافها محاربة الإسلام السياسي (ومعه التدين غير الخاضع لقبضة الحكام). لكن أن يصل الأمر إلى إنفاق أموال طائلة على تحريض حكومات غربية على المسلمين لديها ومضايقتهم في حياتهم العامة وعباداتهم ومظهرهم وغلق مدارس أبنائهم، فتلك مشكلة.
وما لم يقله التقرير الفرنسي أن القائمين عليه تأثروا، مباشرة أو من بعيد، بضغوط حكومات عربية من أجل إصداره مشبعا بذلك العداء والسلبية. وليس مستبعدا أن هذه الحكومات ساعدت الجهات الفرنسية بالمال والعنصر البشري والمعلومات كي يصل التقرير إلى ما وصل إليه. المقابل؟ صفقات عسكرية واقتصادية، بعضها تافهة، وإغراءات مالية يسيل لها لعب الحكومات الغربية المأزومة سياسيا واقتصاديا.
يتطرق التقرير إلى الحرب الإسرائيلية على غزة ويزعم أنها شكلت فرصة للإخوان لتعزيز نفوذهم. لكنه يتناول هذه الحرب بالعقلية الكولونيالية الغربية وأحكامها الجاهزة من القضية الفلسطينية ومزاعمها المزمنة عن استفحال معاداة السامية في فرنسا. أغلب ما جاء في التقرير ورد في شكل «فلان التقى إسماعيل هنية»..، و«فلان أصدر تسجيلا مناهضا للصهيونية».. إلخ.
هناك جانب آخر مرَّ عليه التقرير مرور الكرام هو أن القائمين عليه راعوا في إعداده حسابات سياسية وانتخابية فرنسية، وأن اليمين الشعبوي هو قوة الدفع الرئيسية في هذه الحسابات ومن ورائها التقرير.
وما لا يقوله التقرير أيضا أن أصحابه أصدروه في ذروة غضب عالمي، شعبي ثم رسمي الآن، من الإبادة الإسرائيلية في غزة. وما لا شك فيه أن العمل على التقرير جرى متأثرا بالمزاعم الغربية عن انتشار معاداة السامية وكراهية إسرائيل في العالم بسبب هذه الحرب.
هناك تداعيات خطيرة ستترتب عن التقرير. أولها أنه سيُشرعن أعمال التجسس على مسلمي فرنسا، ويفتح عليهم أبواب الملاحقات الأمنية والتضييق والاعتقال بالشبهة. هذا التقرير عار على السلطات الفرنسية ويجب أن تتبرأ منه وتتفرغ لإصلاح علاقتها مع مسلميها وأغلبهم فرنسيون. ولعل هذا ما أزعج الرئيس ماكرون فوبّخ حكومته على تسريبه. هذا عمل يجعلك تشبّه فرنسا وأجهزتها الأمنية برجل لم يجد ما يفعل بوقته وموارده فراح يبحث عن مشاكل ثانوية يُلهي بها نفسه ويُرضي أسياده.
هذا التقرير يقود إلى الاستنتاج أن فرنسا ليست بخير، وأن الخوف عليها ليس من المسلمين والإخوان، بل من مسؤولين يفتعلون مشكلة ثم يقيمون الدنيا عليها ويستدعون أركان الدولة للاستنفار من أجلها.
توفيق رباحي
تعليقات الزوار
لا تعليقات