أخبار عاجلة

ظاهرة “بلماضي” وثقافتنا في التعامل مع الإنجازات والنكسات

حزن الجزائريون هاته المرة بعد ان ارتكس منتخبهم بكرة القدم إلى مؤخرة ترتيب مجموعته في دورة بطولة كأس أمم إفريقيا الجارية وقائعها حاليا بدولة الكاميرون، وخصوصا بعد أن أوقف منتخب دولة هي بحجم مدينة من أوسط مدن الجزائر (غينيا الاستوائية) سلسلة اللا هزيمة الي سار عليها منتخبهم (35 مباراة من دون انهزام) منذ تتويجه التاريخي بالكأس الافريقية بمصر في 2019، بيد أن اللافت للانتباه من وراء هاته الهزيمة والارتكاسة في الترتيب ورهن إمكانية التأهل إلى الدور الثمن نهائي من هاته المنافسة، هو شاكلة التعامل مع جمال بلماضي مدرب المنتخب، وصاحب الإنجاز الذي استعصى على كل من سبقوه من المدربين، حيث راح البعض يتشبث ببقائه باعتباره دوما بطلا قوميا لا يمكن للجزائر أن تلد مثله، والبعض الآخر يدينه ويعتبره مغرورا، وديكتاتورا نال ما كان يستحقه من اخفاق ككل نهاية لمستبد بالرأي.

هي إذن حالة تعكس ثقافة أمة في وعي حركيتها في الواقع ورؤيتها للفاعل في التاريخ، سواء أكان زعيما سياسيا، أو دينيا، أو مدرب رياضي حقق إنجازات غير مسبوقة في تاريخ الأمة وذلك بوقف التاريخ واعتباره قد انتحر مع ذهاب أو تنحي أو موت هذا الزعيم أو البطل أو الشيخ!

فجمال بلماضي في نظر من قدسوه وعلوا من شأنه في الهزيمة كما في النصر، في النجاح كما في الفشل مطالبين ببقائه وعدم التعرض له لا بالنقد ولا بالنقض، يعتقدون أن ذلك الإنجاز الذي تحقق معه إنما كان بذات بلماضي، لا بفكره وتدبيره، وأن هذا التفكير قد يصل إلى منتهى طاقته كونه نابع من عقل بشري محدود، وحين ينضب الخيال ويصمت الفكر، تحل الأزمة ويظل إذ ذاك ضروري التفكير في كل سبل تجاوزها بما في ذلك اللجوء إلى آلية البتر والتغيير.

قلنا في كم من مناسبة تدبرية للتاريخ، أن مثل رئيس الوزراء البريطاني الشهير وينستون تشرشل هو الأكثر موضوعية بل وبراعة في شاكلة تصرف الوعي القومي الراقي للأمم الراقية مع الزعماء وأصحاب الإنجازات، بتعظيمهم لكن دون تأزيلهم فضلا عن تأليههم، فالرجل (تشرشل) رغم أنه كسب الحرب العالمية الثانية ودحر طموح النازية الألمانية، إلا أنه بعد أن استتب السلم والأمن ببريطانيا، خسر الانتخابات وخرج من قصر الحكم من دون أن يخسر شيئا من ماضيه ولا الأمة أضاعت مستقبلها.

الأمر ذاته حدث مع شارل ديغول، الذي حرر فرنسا من الاستعمار النازي، وأعاد الدفع بها إلى مصاف العظماء في المحفل الدولي، بيد أنه خسر الاستفتاء الخاص بالتنظيم الإقليمي سنة 1968 في معارضة عقلانية واعية من الناخب الفرنسي الذي لم يتوقف عند لحظة الحرب البطولية التي تزعمها ديغول، ولم ينسها له بالمقابل، والجنازة التي حُظي بها وهو خارج الحكم، تؤكد مكانة الرجل في التاريخ والوجدان الفرنسي.

لكن الأمر ليسه كذلك بالمرة في العقل العربي الذي يتصل ولا يكاد ينفصل عن ذات الزعيم باعتبارها هي بذاتها بشحمها ولحمها وصورتها المحققة لما يعتبره إنجازات، وأن أي تنحي أو إمكانية تنحي عن المسئولية سيغدو نهاية للوجود وخطرا على المصير، وتكسيرا لما تحقق (إن تحقق شيء فعلا)!

مشكل كبير في الموضوعية التاريخية تعانيها شعوبنا، تتمظهر في السياسة كما في الرياضة والمال، التوجس من النقد، وردع الأنفس المتغطرسة كثيرا ما أسهم في حدوث الارتكاسات والنكسات والنكبات بل الويلات للدول، ابحث عن أي زعيم مزعوم، قُدس في الفضاء العربي البائس اليوم، ولوسف تجده جنى على شعبه ما لم يجنيه عليه حضور الاستعمار أو الاستدمار ذاته، ومع ذلك تجد من لا يزال يعتبره نهاية أجمل ما دفعت به أرحام الأماهات العربيات من عبقريات، وأن تلك الارحام قد عقرت وعجزت عن أن تدفع بأخير أو حتى آخر مماثل لهذا الزعيم الراحل !

فجمال بلماضي، إطار رياضي كان له تصور لمنتخب بلاده، وضعه حيز التنفيذ، حيبن تم تعيينه في منصبه، وحققه به إنجازا إن كان هو الأول من نوعه في تاريخ الكرة الجزائرية، فالأكيد أنه لن يكون طبعا الأخير، طالما أن الزمن مستمر وأن التاريخ يُصنع وأن العمل يتم في محفل التنافس والتدافع (الصراع بلغة السياسة) وكل مرحلة تستحق بل تفرز رجالها وفق خصوصيتها وهذا ما لم يرد البعض فهمه أو تفهمه.

والرجل ذاته (بلماضي) سبق وصرح بعد نيله للكأس الافريقية سنة 2019 أن المرحلة الثانية من مشروعه هو تطوير أداء المنتخب، وهو ما لم يحصل، وليس بالعيب أن لا يحصل طالما أنه اجتهاد بشري يتم في واقع تجريبي يخضع لميكانيزمات التجريب، وواضح أن سبب فشل مشروعه في التطوير كان عدم اللجوء إلى التغيير في تركيبته البشرية التي حقق بها الإنجاز، الاخلال بهذه المعادلة في جوهر عناصرها (لا تطوير بلا تغيير) كان سببا في النكسة وفشل المشروع (التطويري) وبالتالي يغدو الرحيل أمرا عاديا كي يفسح المجال للقدرات الموجودة أن تعبر عن نفسها وفق تصور آخر يمتلكه عقل آخر من عقول الأمة، هذا ما لا يريد بعضنا وعيه وتفهمه وبتشبث بصنم الزعيم ولو كان من لحم في السياسة كما في الرياضة دون الحديث عن الدين.

بشير عمري

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات