فور أن صادق مجلس الأمن الدولي على مشروع القرار الأمريكي حول غزة، الذي أصبح لاحقا يُعرف بالقرار 2803، وكانت الجزائر من المصوّتين عليه، كتب الدكتور وليد عبد الحي مستغربا. اعتبر أن التصويت الجزائري يصعب تفسيره، ثم تساءل لماذا لم تمتنع الجزائر عن التصويت مثل الصين وروسيا. وختم منشوره بشيء من هذا القبيل: لو كان التصويت الجزائري سؤالا في امتحان في العلاقات الدولية سأسلّم ورقتي بيضاء.
أفتح قوسا هنا لأذكّر بأن الدكتور عبد الحي، وهو فلسطيني، عاش في الجزائر حيث عمل مدرِّسا في كلية العلوم السياسية في الجزائر العاصمة، وتخرّج على يده كثيرون لمعوا في مجالهم وفي الحقل الإعلامي. كان ذلك خلال ثمانينيات القرن الماضي، ومع بداية الصراع الأهلي في أوائل التسعينيات، غادر الجزائر إلى الأردن أو الأراضي الفلسطينية.
المُستغرب أن يستغرب الدكتور عبد الحي، وكثيرون داخل الجزائر وفي فلسطين وغيرها، تصويت الجزائر لمشروع القرار الأمريكي. لو صوّتت الجزائر ضد القرار، ودون الخوض هنا في التفاصيل، كانت ستفتح باب الضرر على نفسها دون أن تفيد حماس أو القضية الفلسطينية، لأن تصويتها لن يمنع مرور مشروع القرار.
العقل يقول إذا رأيت القطار آتيا بسرعة جنونية فلا تستعرض له صدرك العاري، بل ابتعد عن طريقه إلى أن يمر. ترامب هو القطار المجنون. الصين قوة اقتصادية خارقة قادرة على ملاعبة ترامب والغرب كله متى وكيفما أرادت. روسيا قوة نووية قادرة على ردعه بسهولة. الجزائر لا هذه ولا تلك، ومقارنتها بالدولتين فيها تحامل.
لا يمكن إنكار أن تصويت الجزائر صادم سياسيا وأخلاقيا بالنظر إلى اندفاعها خلال السنوات الأخيرة في تبنى القضية الفلسطينية. لكنه من الناحية الواقعية وارد وغير صادم لمن يدرك حجم شبكات الضغوط وتداخل موازين القوى الدولية.
هل يجوز القول، بعد هذا التصويت، أن الجزائر باعت القضية الفلسطينية؟ الجواب: لا. لسبب بسيط هو أن الجزائر لم تمتلك أو تحتكر القضية الفلسطينية يوما. صحيح أنها آوت جالية فلسطينية كبيرة، وتبنّت القيادات الفلسطينية، سياسية وعسكرية، ومنحتها تسهيلات كثيرة، واستضافت مؤتمر إعلان الدولة الفلسطينية في خريف 1988. لكن هذا كله لا يغيّر من حقيقة أن صلة الجزائر بالقضية الفلسطينية ليست مما يمكن أن يُطلق عليه قرابة من الدرجة الأولى.
ثم جاءت التسعينيات لتعلن نهاية «الرباط» الجزائري الفلسطيني وبقاءه وجدانيا فقط: غرقت الجزائر في مشاكلها الداخلية، واختار الفلسطينيون طريق أوسلو.
اليوم هناك علاقة وجدانية بين الطرفين، لكن لا يوجد تداخل عضوي أو سياسي بينهما بالمعنى الحقيقي للمفهوم. وأعتبر أن الجزائر (ومعها دول شمال إفريقيا) محظوظة بهذا الوضع، لأنها لا تتحمل عبء التعامل المفروض عليها مع هذه الأزمة المتشعبة التي تزداد تعقيدا في كل يوم يمر.
حتى لو أرادت الجزائر لعب دور أول في هذه القضية المستعصية، فلن تستطيع. هناك أسباب موضوعية تحول دون الجزائر وأيّ دور رئيسي في القضية، منها البعد الجغرافي وغياب العلاقة المباشرة مع الصراع كما هو حال دول مثل مصر والأردن. وهناك أيضا دخول دول أخرى على الخط مثل قطر والسعودية والإمارات، وهي تملك من أدوات التأثير، كالمال والجرأة الدبلوماسية، وهامش المناورة، أكثر مما تملك الجزائر.
علاقة الجزائر بالقضية الفلسطينية عميقة. مشاعر الجزائريين، سلطة وشعبا، تجاه القضية متوهجة باستمرار. لكن لا السلطة تملك أدوات تنفيذ شعاراتها، ولا الشعب يملك غير التعاطف والتضامن الصادقَين يقدمهما للفلسطينيين.
عندما قررت الجزائر السعي في المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، لم تستطع عقد سوى اجتماع واحد لهذه الفصائل التي لم ترفض أي دعوة من أي بلد لعقد اجتماع مصالحة.. من مصر وصولا إلى الصين وروسيا، دون أن يتحقق شيء على الأرض. فكان لقاء الجزائر مجرد تجمع علاقات عامة يتيم، سبقته وتلته أخرى في عواصم أخرى فشلت جميعها، لأن ما بين الفصائل الفلسطينية، وخاصة حركتي فتح حماس، أرواح ودم وأحقاد، وخلافات عقائدية وسياسية عميقة مستعصية على الحل إلا بمعجزة لم يحن وقتها بعد.
خطأ الدبلوماسية الجزائرية أنها لم تتغيّر، ولا تزال تتعامل مع القضية الفلسطينية وكأننا في سبعينيات القرن الماضي. من الصعب الاعتقاد أن القائمين على الدبلوماسية الجزائرية لا يدركون حقيقة أن العالم تغيّر، وأن أول ضحايا هذا التغيير القضية الفلسطينية. ثم دخل الرئيس عبد المجيد تبون على الخط بقوة، واحتكر الخطاب المتعلق بالقضية الفلسطينية ورفع سقف التصريحات والتطلعات، فقيَّد هامش حركة الدبلوماسيين.
الدبلوماسية الجزائرية في حاجة إلى مراجعة نفسها. شعارات من قبيل «مع فلسطين ظالمة أو مظلومة» ولّى زمنها. حتى قائلها، الرئيس هواري بومدين، كان سيراجع نفسه لو كُتب له العيش إلى اليوم. السخرية من الدول العربية التي اختارت التطبيع مع إسرائيل لا تليق. هذا تخصص معمر القذافي في زمن المد الثوري. شعارات الدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها في حاجة إلى تأمل. أين هي هذه الشعوب أولاً؟ لو وُجدت وخُيّرت، فنسبة غير قليلة منها قد تصوّت ضد الاستقلال بعد ما رأت من إخفاقات الدول المستقلة حديثا. سياسة عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى تكون حكيمة إذا تعلق الأمر بالبيرو أو هايتي، أما إذا كان الحريق في ليبيا أو مالي وكل الدول تلعب هناك إلا أنت، فذلك تقصير في حاجة إلى مراجعة فورية. شتم المستقبل وحرق أوراق العودة حتى مع ألد أعدائك يعود عليك بالضرر عاجلا أم آجلا لأن في السياسة لا شيء ثابتا.
تصويت الجزائر على القرار 2803 ينسجم مع توجهات جامعة الدول العربية والعديد من الدول العربية الوازنة، فلا داعي لاستغرابه. أتمنى أن يكون هذا التصويت بداية تحوّل في العمل الدبلوماسي الجزائري، وتدوير الزوايا. بحثُ الجزائر عن مصلحتها لا يعني بالضرورة الولاء لإسرائيل أو خيانة الفلسطينيين. رفض قرار مجلس الأمن فقط إرضاءً لبعض الحالمين أو انسجاما مع توجهات دبلوماسية قديمة، وفي غياب أفكار أخرى وأيّ استعداد للتفكير في بديل جدّي، نوع من الانتحار في عالم يقوده رئيس أمريكي بالعصا الغليظة وبالدوس على إرث إنساني هائل بينما ثلاثة أرباع الكرة الأرضية تتسلى وتضحك.
توفيق رباحي

تعليقات الزوار
لا تعليقات