تشهد السياسة التركية تجاه ليبيا تحوّلًا لافتًا خلال العام 2025، مع انفتاح متزايد على قيادات الشرق الليبي في مقابل استمرار علاقاتها الراسخة مع حكومة الوحدة الوطنية في الغرب، في خطوة تعكس تحوّلًا براغماتيًا يهدف إلى حماية المصالح الاقتصادية والأمنية لأنقرة وإعادة ترتيب نفوذها في شرق المتوسط ووسط إفريقيا. وتأتي الزيارات المتكررة لـ»صدام»، نجل حفتر إلى تركيا، وهي الثالثة خلال هذا العام، كواحدة من أكثر المؤشرات وضوحًا على هذا التحوّل الذي لا يخلو من تداعيات على مسار المصالحة الداخلية وموازين القوى بين الشرق والغرب.
وتقول الإذاعة الفرنسية إن الزيارة الأخيرة لصدام حفتر تكتسب أهمية جيو استراتيجية بالنسبة لأنقرة، التي تسعى إلى استخدام ميناء بنغازي بوصفه نقطة عبور جديدة نحو أسواق دول وسط إفريقيا، في إطار مسعى لتوسيع نفوذها التجاري خارج حدود المتوسط. وترى الإذاعة أن أنقرة تتحرك بسرعة نحو إعادة موازنة علاقاتها مع الأطراف الليبية، مدركة أن «القيادة العامة» تمثل القوة العسكرية الأكثر تماسكًا، ما يجعل التعامل معها ضرورة لحماية مصالحها السياسية والاقتصادية، دون التخلي عن علاقاتها التاريخية مع غرب ليبيا الذي لا يزال يمثل حليفها التقليدي.
وتشير التقارير التركية بدورها إلى أن استقبال وزير الدفاع يشار غولر لصدام حفتر في أنقرة يعكس التزام تركيا بالحفاظ على قنوات مفتوحة مع القيادات العسكرية الليبية المؤثرة، بما في ذلك الأطراف التي كانت في موقع الخصومة خلال سنوات الصراع. وقد اكتفت وزارة الدفاع بنشر صور للقاء دون تفاصيل إضافية، في إشارة إلى حساسية المرحلة وحرص الجانبين على إدارة هذا التقارب بصمت محسوب يراعي التوازنات الداخلية في ليبيا.
وترى صحيفة «يني شفق» أن اللقاء يعد امتدادًا لسياسة تركية جديدة قوامها الانخراط مع جميع القوى الفاعلة في ليبيا، وتجنب سياسة الاصطفاف الحاد التي ميزت السنوات السابقة.
ويمثل هذا الانفتاح جزءًا من إستراتيجية أوسع تتبناها أنقرة في شرق المتوسط وشمال إفريقيا، إذ تعمل على تنويع شراكاتها والحد من النفوذ الروسي المتزايد في شرق ليبيا. كما يسعى الجانب التركي إلى تعزيز الاستثمارات في قطاعات الغاز والطاقة وإعادة الإعمار، خصوصًا في المناطق الشرقية التي كانت تقليديًا بعيدة عن المشاريع التركية. وترى الإذاعة الفرنسية أن المعسكر الشرقي لم يعد يعارض هذا الدور كما كان في السابق، ما يعزز احتمالات نشوء مرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي والعسكري، تقوم على تبادل المصالح أكثر من التحالفات السياسية الصلبة.
وتستفيد أنقرة في تحركها الجديد من حالة البرود التي تسود علاقات قيادة الشرق مع بعض القوى الدولية، ومن حاجة الطرفين إلى بناء قنوات تنسيقية وسط فراغ سياسي ممتد. كما تدرك أن صراع النفوذ على السواحل الليبية وموارد الغاز يجعل الانفتاح على الشرق خطوة تفرضها اعتبارات الأمن القومي التركي، فيما يمثل للقيادة فرصة لتقوية شرعيتها الدولية وتوسيع شبكات الدعم السياسي والعسكري خارج التحالفات التقليدية.
ويأتي ذلك بالتوازي مع دور تركي متنامٍ في مسار المصالحة بين الشرق والغرب. فمنذ تصريحات الرئيس رجب طيب اردوغان في أيلول/ سبتمبر الماضي بشأن «ضرورة إرساء حوار بنّاء بين الشرق والغرب»، كثّفت أنقرة تحركاتها لفتح قنوات اتصال بين الأطراف الليبية، معتبرة أن وحدة ليبيا واستقرارها السياسي مصلحة تركية مباشرة. وأشار الرئيس التركي حينها إلى أن صدام حفتر يحافظ على تواصل دائم مع الاستخبارات التركية ويجري حوارات مع وزارة الخارجية، في إشارة إلى العمل على بناء جسور تدريجية تتجاوز مرحلة القطيعة التي فرضتها الحرب.
وتدرك حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة أن هذا التقارب التركي مع معسكر الشرق لا يمثل تغييرًا في ولاء أنقرة، بقدر ما هو محاولة لاحتواء النفوذ العسكري والسياسي للشرق ضمن إطار يحفظ التوازن الداخلي ويمنع انزلاق البلاد نحو صِدام جديد. ويأتي هذا الفهم مدعوماً بالعلاقات الاقتصادية والأمنية المستمرة بين طرابلس وأنقرة، خصوصًا مع زيارة وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا إلى طرابلس أمس، حيث التقى رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة ووزير الداخلية عماد الطرابلسي. وجرى خلال الزيارة بحث تعزيز التعاون الأمني وتطوير اتفاقية التعاون الموقعة العام الماضي، إضافة إلى إطلاق آلية مشتركة لإدارة ملف الهجرة وتبادل الخبرات، بما يعكس رسوخ الشراكة بين الجانبين.
وتسعى تركيا من خلال هذا المسار المزدوج إلى لعب دور الوسيط بين الشرق والغرب، مستفيدة من قدرتها على الوصول إلى الطرفين. ويُنظر إلى هذا الدور باعتباره محاولة لإعادة هندسة المشهد الليبي بما يضمن عدم انفراد أي طرف بالقرار، وبما يتيح لأنقرة الحفاظ على حضورها العسكري والاقتصادي دون صدام مع القوى الإقليمية. ومع ذلك، تثير الزيارات المتتالية لصدام حفتر مخاوف لدى بعض القوى في الغرب(الليبي)، التي ترى فيها اعترافًا تركيًا ضمنيًا بشرعية قيادة الشرق وتعزيزًا لطموحاتها السياسية والعسكرية.
وفي الخلفية، تعمل قيادات الشرق(الليبي) على توسعة رقعة تحالفاتها الدولية، إذ يقود بلقاسم حفتر جهودًا لجذب الاستثمارات الأجنبية عبر الصندوق الليبي للتنمية وإعادة الإعمار، بينما يجري خالد حفتر مباحثات أولية لزيارة مرتقبة إلى إيطاليا، في سياق تحرك أوسع يشمل علاقات مع روسيا وفرنسا واليونان. وتمنح هذه التحركات للقيادة العامة هامشًا إضافيًا للمناورة في مواجهة نفوذ القوى المنافسة داخل ليبيا.
وبينما تبدو أنقرة ماضية في بناء شبكة علاقات أكثر اتساعًا داخل ليبيا، يظل نجاح هذا النهج مرتبطًا بقدرتها على الحفاظ على توازن دقيق بين الشرق والغرب، وضمان ألا يتحول التقارب مع «قيادة الرجمة» إلى مصدر توتر مع الحليف الأهم في غرب البلاد. لكن المؤكد أن السياسة التركية دخلت مرحلة جديدة، تتعامل فيها أنقرة مع ليبيا كمنظومة سياسية متعددة الأقطاب، وتعمل فيها على حماية مصالحها عبر بناء جسور متوازية بدل الاصطفاف الأحادي، ما يجعل عام 2025 محطة مفصلية في رسم ملامح الدور التركي في المشهد الليبي.
زيارة صدام حفتر إلى أنقرة تثير نقاش حول التحول في موقف تركيا

تعليقات الزوار
لا تعليقات