عاد الاتفاق المالي الموحّد بين مجلسي النواب والدولة إلى واجهة الجدل الليبي مجددا، بعدما تباينت مواقف الأطراف السياسية والاقتصادية بشأن جدواه وقدرته على معالجة التشوهات المتراكمة في إدارة المال العام، في وقت كشفت فيه تقارير دولية عن تدخلات خارجية مؤثرة وتوسّع غير مسبوق في اقتصاد الظل القائم على تهريب الوقود. وبينما رأى البعض في الاتفاق خطوة نحو تنظيم الإنفاق وتوحيد القنوات المالية، اعتبره آخرون مجرد إجراء مؤقت لا يلامس جذور الأزمة، خصوصا مع استمرار الانقسام المؤسساتي وتنامي مراكز القوى المسيطرة على الموارد. وشكّل هذا الجدل خلفية حاضرة في أي نقاش لاحق حول المسار المالي في ليبيا، بما في ذلك المعطيات الجديدة التي تكشف عن تصاعد الدور الأمريكي وتراجع الدور الأممي في إدارة الملف الليبي.
واشنطن والتفاوض المباشر
وفي هذا السياق، أفاد موقع «أفريكا إنتلجنس» أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تبنّت خلال الفترة الماضية أسلوب التفاوض المباشر بين الأطراف الليبية في طرابلس وبنغازي، في خطوة تجاوزت دور بعثة الأمم المتحدة التي كانت تقود الحوار السياسي بين المؤسسات الرسمية. وأوضح الموقع أن الوساطة الأمريكية أفضت إلى توقيع اتفاق البرنامج التنموي الموحّد في 18 تشرين الثاني/نوفمبر، وهو الاتفاق الذي استُخدم لاحقاً كإطار لإعادة تنظيم السياسات المالية بين الشرق والغرب، بهدف توحيد إجراءات الصرف وإعادة توزيع عائدات النفط بشكل عادل، وإنهاء فوضى طباعة وإصدار النقد التي استمرت سنوات عبر المصرف الموازي في الشرق الخاضع لسيطرة خليفة حفتر والمدعوم سابقا من روسيا.
وأشار التقرير إلى أن العملية الأمريكية شملت تفتيشاً مالياً دقيقاً عبر مراقبة التحويلات بالعملة الصعبة وعمليات الاستيراد، باستخدام شركة الاستشارات الأمريكية «K2 Integrity»، التي تولّت تدقيق مسارات الأموال والاعتمادات المستندية. وفي موازاة ذلك، استعان رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة بشركة الضغط الأمريكية «Mercury Public Affairs» لضمان بقائه ضمن دائرة القبول السياسي في واشنطن، خصوصا في ظل دعوات مجلس الأمن لتوحيد المؤسسات الليبية وإعادة ضبط آليات الإنفاق.
وقال «أفريكا إنتلجنس» إن الحكومة غير المعترف بها في الشرق، برئاسة أسامة حماد، قطعت علاقاتها مع بعثة الأمم المتحدة احتجاجا على تمويل قطر لمشروع الحوار السياسي، وهو ما اعتبره مراقبون مؤشراً إضافياً على تضاؤل دور الأمم المتحدة مقابل صعود الدور الأمريكي المباشر، خصوصا بعد أن أصبحت واشنطن طرفاً فاعلاً في المفاوضات المالية عبر الاتصالات الأمنية والدبلوماسية خلال الأشهر الماضية.
وتزامن ذلك مع ما كشفه موقع «أويل برايس» الأمريكي حول طبيعة الاستقرار الاقتصادي الذي تعيشه ليبيا، والذي وصفه الموقع بأنه «استقرار زائف»، يقوم أساساً على نظام مالي موازٍ تتحكم فيه مراكز قوى شرقاً وغرباً، مستندة إلى اقتصاد واسع لتهريب الوقود يتجاوز الأرقام الرسمية بكثير. وأشار الموقع إلى أن ليبيا خسرت أكثر من 20 مليار دولار بين عامي 2022 و2024 بسبب عمليات تهريب منظّمة، شملت التلاعب بتشغيل المصافي وتحريك الناقلات البحرية، ما خلق فائض إنتاج «على الورق فقط»، في حين كانت شبكات التهريب تنقل الوقود المدعوم نحو مناطق خارج الرقابة الليبية. وبيّن التقرير أن تغيير قيادة المؤسسة الوطنية للنفط في وقت سابق من العام لم يكن كافياً لوقف الشبكات المسيطرة على عمليات التهريب، حيث ظلت هذه الشبكات مدمجة في إدارة المصافي ومراقبة المستودعات ووحدات الأمن الساحلي ووسطاء الشحن، الذين استخدموا مسارات عبر مالطا وتونس لإعادة توزيع المنتجات البترولية. كما أشار الموقع إلى توسع نفوذ الأجهزة الأمنية في المنطقة الشرقية على الممرات الصحراوية التي تربط الجنوب بالأسواق الإقليمية، في حين تواصل مجموعات غربية السيطرة على شبكات التهريب انطلاقاً من الزاوية وزوارة نحو وسط البحر المتوسط.
ولفت الموقع إلى أن السفن والشركات والوسطاء الذين ظهروا في تحقيقات سابقة ما زالوا ينشطون عبر الآليات نفسها، ما يعني أن غياب التنسيق في ليبيا يسمح باستمرار عمليات التهريب رغم الضغوط الدولية. ويتزامن ذلك مع نقص وقود داخلي متزايد، وارتفاع استيراد المواد البترولية رغم ثبات الطلب المحلي، وهو ما اعتبره الموقع دليلاً إضافياً على سرقة الوقود المدعم وعدم تطابق بيانات المصافي مع حركة الصادرات المعلنة.
مداخيل التهريب
ورأى «أويل برايس» أن العامل الوحيد الذي يحافظ على بقاء طرفي الصراع في السلطة هو «مداخيل التهريب»، حيث يُلقي كثيرون اللوم على الجريمة المنظمة، غير أن الموقع يؤكد أن المشكلة أعمق وتتعلق بفساد مستشرٍ داخل المؤسسات المرتبطة بإدارة المصافي والطرق البحرية. كما لفت إلى أن شركات النفط والغاز الدولية غالباً ما تغض الطرف عن هذا الوضع، لأن الفساد يتركز في المنتجات المكررة وليس في إنتاج النفط الخام الذي يمكن لليبيا القيام به بكلفة منخفضة نسبياً عندما تكون الحقول مستقرة.

تعليقات الزوار
لا تعليقات