أعاد توقيع مجلسي النواب والمجلس الأعلى للدولة على اتفاق «البرنامج التنموي الموحّد» تعزيز الآمال بإمكان تجاوز الانقسام المالي الذي يطبع المشهد الليبي منذ سنوات، في خطوة وصفت بأنها الأهم على صعيد توحيد قنوات الإنفاق ودعم مسار الاستقرار الاقتصادي. الإعلان جاء من داخل مصرف ليبيا المركزي بطرابلس، الذي احتضن مراسم التوقيع، وسط ترحيب محلي ودولي اعتبر الخطوة بداية عملية لبناء مسار مالي مشترك قد يخفف من حدة الأزمات المتراكمة في البلاد.
وقال مصرف ليبيا المركزي في بيان، إن الاتفاق يعكس «روح المسؤولية المشتركة» ويمهد لتوحيد الجهود التنموية في كل المناطق، مؤكدا أنه يمثل خطوة وطنية مهمة نحو تعزيز الاستقرار المالي. وأعلن المصرف دعمه الكامل للاتفاق، مشيرا إلى أنه يضع إطارا واضحا لتوحيد قنوات الصرف والإنفاق على مشروعات التنمية، ويعزز مبادئ الشفافية والحوكمة في إدارة المال العام. ووفق البيان، ينتظر أن ينعكس الاتفاق إيجابا على القطاعات الحيوية من خلال توجيه الموارد نحو الاستثمار المنتج في البنية التحتية والتعليم والصحة، بما يسهم في تحسين الخدمات ودفع عجلة النمو الاقتصادي.
ويأتي هذا الاتفاق في وقت تعيش فيه ليبيا انقساما مؤسسيا واضحا بين حكومتين، الأولى في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والثانية في بنغازي برئاسة أسامة حماد المكلّف من مجلس النواب، مع ما يرافق ذلك من إنفاق «موازٍ مزدوج» أدى إلى تفاقم الأزمة المالية في البلاد. ويُنظر إلى الاتفاق الجديد باعتباره وثيقة للصرف الحكومي بشكل موحّد، في ظل تعثر إقرار ميزانية عامة تغطي كامل التراب الليبي.
ورحب المجلس الأعلى للدولة بالتوقيع، مؤكدا أن وقف الإنفاق الموازي مع مجلس النواب سيتحول إلى أرضية لتفاهمات أوسع تدعم الحل السياسي. وفي بيان له، أوضح المجلس أن الاتفاق يشمل توحيد الصرف في باب التنمية، واعتماد مسار مالي موحد يكفل حسن إدارة الموارد العامة، ويضمن توجيه الإنفاق نحو المشاريع الخدمية والبنى التحتية بطريقة أكثر عدالة وشفافية. واعتبر المجلس أن هذا التحول يعزز فرص تحسين الخدمات ويعيد الثقة في المؤسسات المالية.
و أشاد رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي بالاتفاق، واصفا إياه بأنه خطوة مهمة نحو تعزيز التوافق والاستقرار المالي. وأكد المنفي ضرورة التزام مصرف ليبيا المركزي بالتطبيق الدقيق لبنود الاتفاق، لا سيما ما يتعلق بالضوابط القانونية للاعتمادات المستندية والإجراءات المرتبطة بمكافحة غسيل الأموال، مشيرا إلى أن المجلس الرئاسي سيتابع التنفيذ بشكل مباشر بما يحافظ على الاحتياطيات النقدية وصون قيمة الدينار. كما أشاد بالجهود المحلية والدولية التي ساهمت في الوصول إلى هذه اللحظة، منبهاً إلى أن تنفيذ الاتفاق ضروري لمواجهة التحديات السياسية والاقتصادية المتصاعدة.
الزخم الدولي لم يتأخر، إذ رحب مستشار الرئيس الأمريكي للشؤون الإفريقية والشرق الأوسط مسعد بولس، بالاتفاق في تدوينة على منصة «إكس»، مؤكدا أن روح التوافق بين قادة الشرق والغرب جعلت التوقيع ممكنا. وقال بولس إن الخطوة ستعزز الاستدامة المالية وتقوي دور المصرف المركزي، كما ستمكن من توفير التمويل اللازم لمشاريع التنمية وللمؤسسة الوطنية للنفط بهدف زيادة الإنتاج وتحسين الإيرادات لصالح جميع الليبيين. وحثّ جميع الأطراف على التنفيذ الكامل للاتفاق، واستثمار هذا الزخم للتوصل إلى ميزانية موحّدة وتعزيز توحيد المؤسسات في إطار العملية السياسية وخارطة الطريق الأممية.
كما أعلنت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ترحيبها بالاتفاق، معتبرة أنه خطوة مهمة نحو تعزيز الاستقرار المالي في البلاد. وأوضحت البعثة أن التزام المؤسسات الليبية بالمعايير الدولية في إدارة المالية العامة سيكون أساس نجاح هذه الخطوة، مؤكدة ضرورة تطبيق الاتفاق بشفافية كاملة، مع احترام التشريعات المحلية والرقابة المالية. وشددت البعثة على أهمية أن تعمل المؤسسات السيادية، خاصة الرقابية منها، باستقلالية تامة، داعية إلى اعتبار الاتفاق بداية ينبغي أن تتبعها حوارات أوسع لتوحيد الميزانية وتعزيز توحيد مؤسسات الدولة. كما أعربت عن تطلعها لتنفيذ الاتفاق بطريقة خاضعة للمساءلة بما يحقق مصلحة جميع الليبيين ويمهد لعملية سياسية شاملة.
وفي السياق ذاته، قال رئيس اللجنة المالية بالمجلس الأعلى للدولة عبد الجليل الشاوش، إن الاتفاق يهدف إلى توحيد آليات الإنفاق على المشاريع التنموية وضمان الشفافية ومراقبة المال العام. وأوضح في مقابلة تلفزيونية أن الإعلان لم يكن نتيجة «هندسة أمريكية»، وإنما جاء بعد تنازلات كبيرة من كل الأطراف الليبية، بما فيها حكومة الوحدة الوطنية وجهات في المنطقة الشرقية والمصرف المركزي وبعض الأجهزة التنفيذية والمجتمعية. واعتبر الشاوش أن الاتفاق يعالج مشكلة الإنفاق الموازي خارج إطار الدولة، ويضمن إيداع جميع الإيرادات العامة في الخزانة العامة وإخضاعها للرقابة المستمرة.
وأضاف أن بنود الاتفاق تشمل استمرار الإنفاق على التنمية ضمن موارد الدولة، وخضوع كافة المشاريع للمتابعة الرقابية، مع تنسيق مستمر مع المصرف المركزي لتحديد أولويات التنمية بطريقة عادلة بين المناطق. وأكد أن المصرف المركزي سيكون نقطة ارتكاز لكل المشاريع التنموية بما يضمن تجنب التداخل بين الجهات. وردا على المخاوف من الغموض أو غياب الضمانات، قال الشاوش إن الاتفاق قائم على القوانين الليبية ويتضمن آليات رقابية قبلية وبعدية تمنع العودة إلى الإنفاق الموازي أو تعدد قنوات الصرف، مشيرا إلى أن المرحلة المقبلة قد تشهد انخفاضا تدريجيا في سعر الدولار خلال أربعة إلى ستة أسابيع نتيجة وضوح الإنفاق والرقابة على الصرف. وختم بالقول إن الاتفاق يمثل بداية لتوحيد العمل المالي والاقتصادي في البلاد رغم وجود بعض العقبات، مؤكدا أن الهدف هو الحفاظ على المال العام واستمرار التنمية في كل المناطق.
اتفاق اقتصادي موحّد بين مجلسي النواب والدولة يفتح باب إنهاء الانقسام المالي في ليبيا

تعليقات الزوار
لا تعليقات