في خطوةٍ وُصفت بأنها الأعنف في تاريخ الحرب على الفساد بموريتانيا، فتحت النيابة العامة التحضير لتحقيقات ستشمل العشرات، بينما سارعت الحكومة إلى إقالة عشرات المسؤولين الكبار المتورطين في قضايا اختلاس وسوء تسيير.
وبالتوازي مع ذلك، تتعالى الأصوات المطالِبة باسترجاع المليارات المنهوبة إلى خزينة الدولة، لتدخل موريتانيا بهذا كله مرحلة جديدة من المواجهة الشاملة للفساد لا تستثني أحدًا ولا تترك مجالًا للمساومة، حسبما أكدته السلطات.
ويُعتبر هذا التحرك امتداداً لردة فعل الرئيس الغزواني على تقرير محكمة الحسابات لسنتي 2022 – 2023، الذي كشف عن اختلالات مالية جسيمة بلغ حجمها، بحسب التقرير، أكثر من 410 مليارات أوقية قديمة، أي ما يعادل نحو مليار دولار أمريكي، في واحدة من أكبر قضايا الفساد التي تهز البلاد منذ سنوات.
وأعلنت النيابة العامة لدى المحكمة العليا في موريتانيا، مساء الأربعاء، عن مباشرتها الإجراءات القانونية المتعلقة بتقرير محكمة الحسابات الأخير، الذي يغطي سنتي 2022 و2023، مؤكدة «أنها ستفتح متابعات قضائية ضد كل من تُسند إليه أفعال تكيّف قانوناً على أنها اختلاس أو تبديد للمال العام».
وقال المدعي العام القاضي محمد الأمين ولد محمد الأمين في بيان مقتضب: «إن النيابة ستستغل مضمون التقرير بكل ما يتيحه القانون من صلاحيات لمساءلة المسؤولين عن أي تجاوزات مالية أو إدارية»، مؤكداً «أن المتابعات ستتم وفق الإجراءات والنصوص المعمول بها».
ويأتي هذا التطور القضائي بعد اجتماع حكومي استثنائي عقد أمس، قررت خلاله الحكومة إقالة جميع المسؤولين الذين وردت أسماؤهم في تقرير محكمة الحسابات، وإحالة الملف بكامله إلى القضاء، في خطوة وُصفت بأنها الأقوى منذ سنوات في مواجهة الفساد الإداري والمالي.
وأوضح البيان الصادر عقب الاجتماع الحكومي «أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني حث الحكومة على المضي قدماً في تطبيق مبدأ المساءلة»، مشيراً إلى «أن الفساد يمثل خطرًا على حاضر البلاد ومستقبلها»، ومؤكدًا «أنه لن يكون هناك تهاون مع أي شخص يثبت تورطه مهما كان موقعه أو تأثيره».
كما وجّه الرئيس الغزواني، الوزراء إلى تحمّل مسؤولياتهم كاملة في فرض الشفافية داخل قطاعاتهم، وتفعيل أجهزة الرقابة الداخلية لمتابعة التسيير الإداري والمالي، دون انتظار تقارير التفتيش أو المحاكم، مشدداً على «ضرورة تصحيح الاختلالات فوراً لضمان حسن إدارة الموارد العمومية».
وأحدثت هذه التطورات تفاعلاً واسعاً في الأوساط السياسية والبرلمانية، حيث تبارت الكتل والأحزاب في إعلان مواقفها من الخطوات الحكومية والقضائية الجديدة.
فقد أعلن الفريق البرلماني لمكافحة الفساد، الذي يرأسه النائب محمد الأمين ولد أعمر، دعمه المطلق للإجراءات الصارمة التي أمر بها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، مشيداً بقرارات مجلس الوزراء التي «تؤكد أن لا أحد فوق القانون، وأن حماية المال العام خط أحمر لا يمكن تجاوزه».
ووصف الفريق، الذي يضم نواباً من حزب الإنصاف الحاكم، ما جرى بأنه خطوة غير مسبوقة في تاريخ البلاد، تعكس إرادة سياسية واضحة لترسيخ مبدأ المحاسبة والمساءلة.
كما أشار البيان إلى أن «الحكومة أطلقت خلال السنوات الأخيرة ترسانة تشريعية ومؤسساتية جديدة، من ضمنها تأسيس السلطة الوطنية لمكافحة الفساد، لتأمين إدارة أكثر شفافية للموارد العامة».
وأكد الفريق البرلماني استعداده لمواكبة هذه الجهود «دعماً ومؤازرةً من موقعه التشريعي والرقابي، انطلاقاً من القيم التي تأسس عليها والمتمثلة في العدالة والنزاهة والشفافية».
وفي الاتجاه ذاته، أصدر حزب جبهة المواطنة والعدالة بيانًا ثمّن فيه القرارات الأخيرة، معتبرًا أن «النهج الذي يواجه الفساد بالقانون ومخرجات أجهزة الرقابة يمثل المسار السليم لحماية المال العام وصون كرامة الدولة».
وأضاف الحزب «أن هذا التوجه لا يقوم على إطلاق الاتهامات دون بينة، ولا على التغاضي عن المفسدين خوفاً من نفوذهم، بل يسعى إلى تحقيق التوازن بين العدالة والإنصاف».
ودعت الجبهة إلى «تعزيز هذا النهج وتثبيته حتى يدرك الجميع أن مسار محاربة الفساد لا تراجع عنه، وأن ثروات البلاد لن تبقى عرضة للنهب أو التحايل».
ورغم الزخم الكبير الذي أحدثته الإجراءات الحكومية والقضائية الأخيرة، يرى خبراء متابعون لهذا الشأن «أن معركة محاربة الفساد في موريتانيا لم تبدأ بعد فعلياً، وأن المرحلة الأصعب ما تزال أمام الدولة ومؤسساتها الرقابية والقضائية».
فنجاح هذا المسار، بحسب المتابعين، يرتبط بمدى استقلالية القضاء عن أي تأثير سياسي، وبقدرة السلطات على ضمان محاكمات نزيهة وشفافة تتيح للرأي العام متابعة التفاصيل دون انتقائية أو تسييس.
كما يشدد المراقبون على أن تجفيف منابع الفساد لا يتحقق فقط عبر العقوبات أو الإقالات، بل من خلال إصلاحات مؤسسية عميقة تعيد تنظيم منظومات الصفقات العمومية، وتعزز الرقابة الداخلية في القطاعات الوزارية، وتفرض المساءلة على جميع المستويات، من القمة إلى القاعدة.
ويرى مراقبون لهذا الملف «أن ما يحدث اليوم يشكّل منعطفاً حاسماً في تاريخ الدولة الموريتانية، إذ لم يسبق أن ترافقت قرارات إدارية بهذا الحجم مع تحرك قضائي مباشر وعلني بهذا الوضوح».
ويعتقد محللون أن الأيام المقبلة ستكون اختباراً حقيقياً لمدى قدرة الحكومة والنيابة العامة على تحويل الأقوال إلى ممارسات دائمة، وعلى جعل المساءلة قاعدة لا استثناءً.
وبين من يرى أن ما يجري بداية إصلاح جذري، والمراقبين الذين يعتبرونه ردة فعل ظرفية على ضغط الرأي العام، تبقى الحقيقة، وفقاً للمحللين، هي: أن موريتانيا تعيش لحظة فاصلة؛ فإما أن تؤسس لـ»دولة القانون والمحاسبة»، أو تنزلق مجدداً إلى دوامة الشعارات التي طالما عطلت مسيرة الإصلاح.
موريتانيا تحسم معركة الفساد: النيابة العامة تتحرك والحكومة تقيل العشرات من كبار المتورطين ومطالبات باسترداد المليارات المنهوبة

تعليقات الزوار
لا تعليقات