أخبار عاجلة

مسلسل «ناصر الجن» الذي لا ينتهي

في اليوم السابع من مسلسل «ناصر الجن» الجزائري، أرسلت إلى صديقي، الكاتب السياسي عابد شارف، شريط فيديو يتضمن جزءا يسيرا من ثرثرة أحد المتحدثين في منصة يوتيوب من الذين غذّوا المسلسل وأبقوه على قيد الحياة، مرفوقا بعبارة: مسكينة بلاد الأسُود أمثال بوضياف وبن مهيدي وبوصوف وديدوش ينتهي بها المطاف هكذا. قاتل الله من أوصلها إلى هنا.
للقارئ غير الجزائري: «ناصر الجن» ضابط عسكري جزائري انتسب إلى المخابرات الداخلية. اسمه عبد القادر حداد. يبدو أنه صاحب مواهب إنسانية ومهنية خارقة أهلته لأن يُبلي بلاء حسنا في ميدان العمليات خلال تسعينيات القرن الماضي، فمنحه زملاؤه صفة «الجن»، أما ناصر فاسم حركي.
بعد نهاية الحرب الأهلية حافظ «الجن» على مساره الوظيفي بما فيه من مطبات وقفزات، فترقى في الرتب وتقلب في المناصب إلى أن أصبح لواءً مديرا عاما للأمن الداخلي من منتصف العام الماضي إلى منتصف الجاري تقريبا. الجهاز الأقوى من كل أجهزة المخابرات وصاحب الحل والربط في كل حركة وسكون داخل البلاد. ثم أُبعد من المنصب في الصيف الماضي لأسباب، كما هي العادة، لا يعرفها إلا الذي أخذ القرار، وعاد إلى بيته. لكن سرعان ما تسربت أخبار عن أنه تحت الإقامة المحروسة، ممنوع من السفر وأنه قد يخضع لتحقيقات أمنية ستُفضي إلى توقيفه ومحاكمته. بعد نحو أربعة أشهر، يوم 18 أيلول (سبتمبر) الماضي، ينتشر خبر كالنار في الهشيم: «الجن» راوغ حراسه وهرب من إقامته المحروسة. كان خبرا عاديا، لكن حفلات اليوتيوب حوّلته إلى حدث عالمي. الصدمة الأولى. الجزائر العاصمة والولايات المتاخمة لها تحت الحصار بحثا عن «الجن» حتى في حافلات النقل العام المهترئة (التي سقطت إحداها قبل أسابيع في وادي الحراش). الصدمة الثانية. «الجن» هرب إلى الخارج. الصدمة الثالثة. هرب في «بوطي» (قارب مطاطي لتهريب المهاجرين عبر البحر المتوسط). الصدمة الرابعة. وتوالت الصدمات حتى لم يعد المواطن الجزائري يطيق المزيد، ثم الضربة القاضية، صحيفتان لم تكتبا حرفا عن الموضوع تدخلان على الخط الثلاثاء الماضي، وتعلنان الموقف الرسمي عبر خبر غير رسمي: «الجن» لم يهرب أصلا (من الإقامة المحروسة أم من الجزائر؟) وهو موجود في الجزائر (في الإقامة المحروسة لم يغادرها أبدا، أم في مكان آخر؟).
كان رد شارف أنه يفكر في كتابة مقال في الموضوع، وتحدثنا عن مأزق الصحافي عندما يتوفر له الحدث ولا يتوفر الخبر. يوم الأربعاء صدر المقال فوجدته قد تطرق أكثر إلى قدرة النظام الجزائري في إدارة هذه الأزمات وطرقه الفريدة في إدارتها عندما تُفرض عليه.
أتفق معه حول أن النظام الجزائري بارع في إدارة الغموض، وحول أن هذا النظام لا يكترث لشيء عندما يقرر نهج طريق معيّن في إدارة موقف أو أزمة مهما بدا هذا النهج غير مناسب. ينبع هذا الأسلوب من ذهنية عنيدة موروثة من صرامة حرب التحرير (النظام الجزائري يدير البلاد كما لو أنها في حالة حرب دائمة) قوامها أن التمسك بإدارة أيّ أزمة وحلها داخليا ولو بالطريقة الخطأ على أن يحلها لنا الغير بالطريقة الصح.
لديّ قصص واقعية كثيرة عن شلل الصحافي الذي يجد نفسه أمام حدث بلا خبر (معلومة)ـ بعضها عشتها أثناء عملي في الجزائر خلال تسعينيات القرن الماضي. لا يتسع المجال لذكرها كلها، لكن أسرد إحداها بالتفصيل لأنني اعتبرها درسا في «الصحافي ومأزق الحدث بلا خبر».

في عصر أحد أيام ربيع 1995 كنا في مقر جريدة «المساء» الحكومية في منطقة حسين داي بالجزائر العاصمة. كانت الجريدة والمطبعة تقعان في شارع طرابلس بالضبط بين ثكنتين، قيادة الدفاع الجوي ومعهد المسح الطوبوغرافي، فمن الطبيعي أن يكون هناك حاجز عسكري عند البوابة، إضافة إلى شرطة فحص الدخول والخروج. في لحظة ما نسمع صوت الرصاص يُلعلع في الجو. كان قريبا جدا، وقبل أن نفهم ما يحدث شاهدنا على الأقل جنديا (أو ضابطا) واحدا من جنود الحاجز يهرب بكل ما أوتي من قوة نحونا للاحتماء. كنت في المكتب لحظتها، لكن بعض الزملاء، منهم السعيد قرايت، كانوا على بُعد أمتار من الحادث وكان يمكن أن يموتوا فيه. أما الحادث فهجوم على الحاجز العسكري تخلله اشتباك انتهى بمقتل المهاجمين، ولا أذكر هل حدثت إصابات بين الجنود والضباط.
في اليوم التالي لم ننشر إلا خبرا مقتضبا غامضا بلا أيّ مضمون أوردته وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية كما تسلمته من الجهات الأمنية التي كانت تحتكر تحرير الأخبار الأمنية وتوزيعها على وسائل الإعلام لتنشرها كما ترد بلا أدنى تأمل أو مراجعة. لا زلت أحفظ صيغة تلك الأخبار إلى اليوم، وهي تشبه «ناقش الزعيمان القضايا ذات الاهتمام المشترك».
وحتى لو امتلكنا حرية النشر، لم نكن نملك تفاصيل الواقعة عدا صوت الرصاص وضابط يسابق الريح نحونا. ولم يكن ممكنا الاتصال بالجهات الرسمية للحصول على المعلومات الناقصة، لأن المصادر الرسمية في الجزائر صمّاء كانت ولا تزال، والقوات المسلّحة علّمونا أنها تسمى «الصامتة الكبرى».
هذا تقريبا صلب موضوع مسلسل «ناصر الجن» مع فرق أن في حادثة شارع طرابلس، كنا شهودا شاهدوا شيئا قليلا، بينما في حادثة المسلسل لا أحد شاهد شيئا ورغم ذلك تسابق الرُوّاة كأنهم حضروا سيركا ثم راحوا يتنافسون في وصف مشاهداتهم.
أتخيَّل الجهة التي أشرفت على مسلسل «ناصر الجن» تتابع الحلقات على يوتيوب وتضحك ملء شدقيها وهي تشاهد «المؤثرين» يتنافسون.. «حسب مصادري فإن»..، «المعلومات التي لديّ تقول»، «بلغني من أناس على صلة»… أو كانت تشاهد وتضرب أخماسا في أسداس على المسار غير المحسوب الذي اتخذه المسلسل. حتى «الجن» ذاته لا أستغرب لو بلغني أنه كان يتابع الحلقات ويضحك حتى تدمع عيناه.
قد يكون مسلسل «ناصر الجن» الأكثر إثارة في المشهد السياسي الجزائري، لكنه لن يكون الأخير طالما يتمسك النظام بـ«طريقتنا ولو خاطئة» (حمارنا ولا حصان الجيران). وعلى الذين لا يملُّون من انتقاد النظام على فشله الإعلامي أن يقتنعوا بأن ما يعتبرونه فشلا يعتبره النظام شيئا آخر.

توفيق رباحي

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات