المسافات التي تفصل بين ضفّتي الأطلسي، تبدو نواكشوط ومدريد اليوم أقرب إلى بعضهما من أي وقت مضى، إذ لا يجمعهما فقط همّ الأمن ومخاطر الهجرة غير النظامية، بل أيضًا طموحٌ مشترك لبناء شراكة متوازنة تقوم على التنمية والاستقرار.
وفي وقتٍ تتجدّد فيه موجات الهجرة باتجاه جزر الكناري، تواصل موريتانيا وإسبانيا تنسيق جهودهما الميدانية والدبلوماسية لكبح «مغامرات البحر» التي كثيرًا ما تنتهي بمآسٍ إنسانية، مع السعي في الوقت ذاته إلى فتح آفاق تعاون أوسع تشمل التنمية المحلية وإدارة الحدود وتعزيز القدرات الأمنية.
وفي هذا السياق، أعلن كل من وزير الداخلية الموريتاني محمد أحمد ولد محمد الأمين، ونظيره الإسباني فرناندو غراندي مارلاسكا، خلال اجتماعات اختتماها أمس في مدريد، عن نتائج جديدة للتعاون المشترك بين البلدين في مكافحة الهجرة غير النظامية، تمثلت في إحباط 3,500 محاولة هجرة خلال عام 2025، إضافة إلى صد أكثر من 10,000 محاولة خلال عام 2024.
وأكد الوزيران أن هذا العمل الميداني المشترك بين الأجهزة الأمنية الموريتانية والإسبانية أسهم في إنقاذ الأرواح ومنع الوفيات في البحر من خلال التصدي لشبكات تهريب البشر منذ المنبع، ضمن مقاربة شاملة تجمع بين البعدين الأمني والإنساني.
وقال الوزير الإسباني فرناندو غراندي مارلاسكا إن «موريتانيا بلد شريك وصديق، تجمعنا به روابط تاريخية وجوار وثيق، وتعاون متميز في مجالي الأمن والهجرة»، معربًا عن شكره للتعاون الممتاز الذي تبديه نواكشوط في مواجهة شبكات التهريب، مؤكدًا أن الأرقام الأخيرة «تعكس التزامًا قويًا وفعّالًا من الجانب الموريتاني في محاربة هذه الظاهرة المعقدة».
وأشار الوزير الإسباني إلى أن الإحصاءات المسجلة حتى 15 أكتوبر 2025 تُظهر انخفاضًا بنسبة59 ٪ في عدد الواصلين غير النظاميين إلى جزر الكناري، وانخفاضًا بنسبة 36٪ في مجموع الأراضي الإسبانية، معتبراً أن هذه النتائج دليل على «نجاح المقاربة المشتركة في معالجة جذور الهجرة».
وأضاف أن موريتانيا تؤدي «دورًا أساسيًا في إدارة الهجرة الإقليمية»، متعهدًا «بالاستمرار في الدفاع عن تعزيز التعاون مع موريتانيا داخل الاتحاد الأوروبي»، وبضمان مشاركتها الفاعلة في الشراكة الأوروبية–الموريتانية التي أُطلقت عام 2024 بهدف دعم التنمية ومكافحة التهريب وتعزيز القدرات الأمنية.
ويأتي لقاء مدريد ضمن سلسلة اللقاءات الثنائية المنتظمة بين البلدين منذ عام 2018، والتي شهدت تكثيفًا ملحوظًا في السنوات الثلاث الأخيرة.
وتمت آخر زيارة للوزير الإسباني إلى نواكشوط في يوليو الماضي، حيث عُقد الاجتماع رفيع المستوى الأول بين موريتانيا وإسبانيا، واختُتم بتوقيع إعلان مشترك لتعزيز التعاون في مجالات الهجرة والتنمية الاقتصادية والأمن.
وفي هذا السياق، لعب الاتحاد الأوروبي دورًا داعمًا لهذه الدينامية، من خلال إطلاق «الحوار الأوروبي– الموريتاني حول الهجرة» في ديسمبر 2023 ببروكسل، والذي مهّد لتوقيع الشراكة الأوروبية – الموريتانية في شباط /فبراير 2024، خلال الزيارة الرسمية التي جمعت في نواكشوط الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بكلٍّ من رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين.
وقد استمع المسؤولان الأوروبيان حينها إلى المقاربة الموريتانية التي عرضها الرئيس الغزواني، والتي ترتكز على رؤية تنموية واقتصادية شاملة تسعى إلى خلق فرص بديلة للشباب، بالتوازي مع الجهود الأمنية لمكافحة الهجرة غير النظامية.
وتُظهر هذه التحركات المتسارعة أن العلاقة بين مدريد ونواكشوط تجاوزت البعد الأمني التقليدي، لتتحول إلى شراكة استراتيجية متكاملة تشمل الأمن، والتنمية، والطاقة، والتعاون الاجتماعي.
وقد تُوِّج هذا المسار بتوقيع أربع اتفاقيات ثنائية جديدة في تموز/يوليو 2025 خلال زيارة رئيس الوزراء الإسباني إلى موريتانيا، شملت مجالات النقل، والضمان الاجتماعي، والأمن السيبراني، والمتنزهات الوطنية.
ويؤكد مراقبون أن هذه الزيارة الأخيرة لوزير الداخلية الموريتاني إلى مدريد تمثل مرحلة جديدة في التنسيق العملياتي بين البلدين، وتعزز موقع موريتانيا كـ»شريك لا غنى عنه» في حماية الحدود الأوروبية الجنوبية ومكافحة تهريب البشر عبر الساحل الأطلسي.
وتأتي هذه التحركات في سياق أوسع تقوده مدريد لتنظيم الهجرة وفق نموذج «الهجرة الدائرية»، القائم على استقبال عمال أفارقة مؤهلين وفق احتياجات الاقتصاد الإسباني، في إطار اتفاقيات ثنائية تضمن الأمان القانوني والبعد الإنساني لهذه العملية.
لكن خلف هذا الطموح الإصلاحي تقف أرقام قاتمة؛ إذ تشير إحصائيات منظمة «كاميناندو فرونتيراس» إلى أن أكثر من 10 آلاف مهاجر فقدوا حياتهم أو فُقدوا في البحر خلال عام 2024 وحده، أثناء محاولتهم العبور نحو جزر الكناري.
ومع ذلك، تشير بيانات وزارة الداخلية الإسبانية إلى تراجع بنسبة 34.4% في أعداد الوافدين بين يناير ومنتصف أيار/مايو 2025، ما يعكس تحسنًا نسبيًا في ضبط المسارات، يُعزى جزئيًا إلى التعاون المتزايد مع دول العبور مثل موريتانيا.
موريتانيا وإسبانيا تتعاونان في مكافحة الهجرة غير النظامية

تعليقات الزوار
لا تعليقات