تشهد الساحة السياسية الليبية حراكًا متصاعدًا بشأن ملف المناصب السيادية في خطوة تهدف إلى إنهاء حالة الانقسام المؤسسي المزمن في البلاد، يأتي هذا الحراك بضغط برلماني معلن ودعم أممي متجدد في محاولة لكسر الجمود الذي يعيق العملية السياسية.
ونشر الناطق باسم مجلس النواب عبد الله بليحق مؤخرًا بيانًا مهمًا يحمل توقيع سبعين عضوًا من أعضاء المجلس، يطالب هذا البيان بشكل واضح بضرورة توحيد جميع المناصب السيادية والتنفيذية دفعة واحدة.
وشدد الأعضاء الموقعون على البيان على رفضهم أي محاولة لإعادة التشكيل المنفردة التي قد تزيد من الانقسام وتؤدي إلى تشظي المؤسسات الموحدة بدلًا من توحيدها، ويرون أن التوحيد الشامل هو الضمان الوحيد لإنهاء حالة التشرذم السياسي.
وأكد البرلمانيون في بيانهم دعمهم الكامل لأي توافقات سياسية واجتماعية شريطة أن تكون مبنية على أسس واضحة وشفافة، يهدف هذا التأكيد إلى تجنب تكرار التوقفات السياسية التي نجمت عن مسارات سابقة لم تكن معالمها محددة بشكل كافٍ.
وأوضح البيان أن إنهاء الانقسام في المناصب السيادية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بضرورة توحيد السلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة، هذا التوحيد يعتبر شرطًا أساسيًا لتمكين مؤسسات الدولة من أداء مهامها المنوطة بها بشكل صحيح وفعال.
وأشار النواب إلى الأهمية القصوى للتوافق مع مجلس الدولة التزامًا بالاتفاق السياسي واتفاق بوزنيقة، ويحدد هذا التوافق آلية توزيع المناصب السيادية على أقاليم ليبيا التاريخية الثلاثة.
وتشمل قائمة المناصب السيادية المستهدفة بالتوحيد مناصب حيوية كمحافظ مصرف ليبيا المركزي، والنائب العام ورؤساء الأجهزة الرقابية والعدلية العليا مثل محكمة النقض والمجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية وديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية وهيئة مكافحة الفساد، وأخيرًا المفوضية العليا للانتخابات.
وطالب الأعضاء رئاسة مجلس النواب بضرورة تشكيل لجنة خاصة تتولى مسؤولية استلام ملفات المترشحين لهذه المناصب السيادية بالتوافق مع مجلس الدولة، هذه خطوة إجرائية حاسمة لوضع البيان موضع التنفيذ.
ويتزامن هذا الحراك البرلماني مع جهود أممية مكثفة لدفع ملف المناصب السيادية قدمًا. وكانت ستيفاني خوري، نائبة رئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، قد أكدت دعم البعثة للجنة المناصب السيادية المشتركة والمكلفة من مجلسي النواب والدولة. وعقدت هذه اللجنة المشتركة اجتماعًا مع خوري في العاصمة طرابلس مؤخرًا، وقد تركز النقاش خلال الاجتماع على أهمية اضطلاع المجلسين بمهامهما ضمن خارطة الطريق الأممية، وخصوصًا فيما يتعلق بـ تسمية شاغلي مجلس إدارة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات.
ورحبت خوري بالتقدم المُحرز بين المجلسين، وأكدت دعمها المتواصل لعمل الفريق المشترك لتمكينه من إنجاز مهامه. ويأتي لقاء خوري في سياق مساعي البعثة لحث المجلسين على إنجاز التوافق على تشكيل مجلس المفوضية ومراجعة القوانين الانتخابية كخطوتين تمهيديتين لخارطة الطريق الجديدة للحل السياسي.
ورغم هذا الدعم، فقد أعربت الممثلة الخاصة للأمين العام رئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، هانا تيتيه، عن أسفها لاختلاف نهج المجلسين حول ملف المناصب السيادية، وذلك خلال إحاطتها الأخيرة أمام مجلس الأمن الدولي، عبرت تيتيه عن أملها في أن يتمكن المجلسان من التوافق عليها قريبًا.
وتبدي البعثة الأممية اهتمامًا خاصًا بتوافق المجلسين على تعيين المناصب الشاغرة في مجلس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، وقد اتفق أعضاء لجنة المناصب السيادية فعليًا على إعادة تشكيل مجلس المفوضية.
واعتمد رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة، اتفاقًا توصلت إليه اللجنة المشتركة في الرابع من أكتوبر الجاري، وينص هذا الاتفاق على استكمال ملف تسمية شاغلي المناصب السيادية بما في ذلك إعادة تشكيل مجلس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات.
وسبق هذا الاتفاق أن توصل ممثلو المجلسين في أيلول/سبتمبر الماضي إلى اتفاق على إعطاء الأولوية لتشكيل مجلس إدارة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، وينص الاتفاق على أن يتولى كل طرف اختيار الأسماء المخصصة له وفقًا لاتفاق بوزنيقة، على أن تُحال الأسماء بصيغتها النهائية إلى مجلس النواب لاعتمادها رسميًا.
وتم إعطاء الأولوية لتشكيل مجلس المفوضية تماشيًا مع متطلبات خارطة الطريق الأممية، على أن يتم ذلك بالتزامن مع اختيار أسماء شاغلي بقية المناصب السيادية الأخرى وفي مقدمتها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وهيئة الرقابة الإدارية وديوان المحاسبة.
وجاء هذا التحرك البرلماني والاتفاقات بعد أيام من إحاطة المبعوثة الأممية هانا تيتيه لمجلس الأمن، حيث اعتبرت أن الوضع الليبي لم يعد يحتمل المزيد من التسويف. ولوحت تيتيه بإمكانية لجوء البعثة إلى نهج آخر بدعم من مجلس الأمن لدفع العملية السياسية قدماً.
وانتقدت تيتيه أداء مجلسي النواب والدولة في تنفيذ المرحلة الأولى من خارطة الطريق والمتمثلة في إعادة تشكيل مجلس المفوضية والاتفاق على الإطار القانوني للانتخابات، واصفة التوافق بين المجلسين بأنه متعثر، ومشيرة إلى خلاف جوهري حول ما إذا كان ينبغي تغيير جميع أعضاء مجلس إدارة المفوضية أو الاكتفاء بملء الشواغر فقط.
وأعلنت تيتيه في الحادي والعشرين من أغسطس الماضي خارطة طريق بثلاث مراحل تبدأ بإعادة تشكيل مجلس المفوضية والاتفاق على إطار انتخابي قابل للتنفيذ في غضون شهرين، تليها مرحلة ثانية لتوحيد مؤسسات الدولة عبر تشكيل حكومة موحدة، وأخيرًا مرحلة ثالثة لحوار وطني مهيكل يهدف إلى تسوية شاملة في غضون اثني عشر إلى ثمانية عشر شهرًا.
في المقابل، صعّد رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب في الشرق، أسامة حماد، لهجته ضد البعثة متهمًا إياها بتجاوز حدود تفويضها الأممي والتدخل في الشؤون السيادية، واعتبر أن تلويح البعثة بنهج بديل يمثل تهديدًا مرفوضًا ومساسًا بالإرادة الوطنية. من جهته، أعلن خليفة حفتر رفضه لخارطة الطريق التي وصفها بـ «التي نُسجت خيوطها وراء الحدود»، ودعا حفتر الليبيين إلى صياغة خارطة طريق ليبية خالصة ترتكز على الشرعية المحلية.
ويبقى مصير ملف المناصب السيادية رهنًا بقدرة مجلسي النواب والدولة على تجاوز خلافاتهما الجوهرية والاستجابة للضغط الداخلي والتمسك بالدعوات الأممية لإنجاز عملية التوحيد الشامل، التي يبدو أنها الفرصة الأخيرة لإنهاء حالة الانقسام السياسي والمؤسسي وتوجيه البلاد نحو مسار انتخابي يقود إلى استقرار دائم.
ضغط برلماني لتوحيد المؤسسات وإنهاء الانقسام الليبي

تعليقات الزوار
لا تعليقات