أخبار عاجلة

ماذا يريد اليمين الفرنسي من منطقة القبائل؟

أثار الملف الذي نشرته مجلة “لوبوان”، الفرنسية اليمينية المعروفة بتناولها الهجومي لقضايا الإسلام والجزائر، موجة واسعة من الجدل في الأوساط الجزائرية، بعدما قدّم منطقة القبائل في صورة توحي وكأنها كيان منفصل شعوريًا وسياسيًا عن باقي البلاد.
وقد رأى كثيرون في هذا الطرح إعادة إحياء للسرديات الاستعمارية التي حاولت فرنسا من خلالها، خلال الحقبة الاستعمارية، استغلال الخصوصية اللسانية والثقافية للمنطقة لتقسيم الجزائريين، وهو ما فشلت فيه، خاصة أن منطقة القبائل كانت في طليعة حركة التحرر الوطني التي توجت باستقلال الجزائر بعد ثورة دامت سبع سنوات ونصف.

وفي ثنايا هذا الملف الذي حمل عنوان “القبائل.. شعب واقف”، حاولت المجلة التعريف بما وصفته بـ”المسألة القبائلية”، والتحدث عن الجالية المنحدرة من المنطقة في فرنسا، وأبرز وجوهها في الرياضة والفن، إلى جانب تناول ما تصفه بـ”القمع” الذي تتعرض له المنطقة، مع إجراء حوار مع سعيد سعدي، مؤسس “التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية”، وأحد أبرز نشطاء الحركة الأمازيغية في الجزائر سنوات الثمانينيات.
وقد صدّرت المجلة الملف بمقال للكاتب الجزائري الفرنسي المثير للجدل كمال داود، الذي زعم أن صورة “القبائلي” في المخيال الجماعي اليوم باتت مرتبطة بمن ينتهك الصوم في رمضان، ويعتنق المسيحية، ويحتج في الشارع رافعًا العلم القبائلي، ويعيد النظر في الإسلام، مضيفًا أن الإسلاميين أنفسهم باتوا يوظفون “المسألة القبائلية” لتعزيز شرعيتهم عبر إضافة “القبائلي” إلى قائمة الأعداء الداخليين.
واعتبر داود، المعروف بلعبه على الكليشيهات، أن المعارضة التي كانت تُختزل في ثنائية “قبائلي/عربي” تحولت اليوم إلى “قبائلي/إسلام” و”قبائلي/وحدة-انفصال”.
لكن هذه المقاربة التي تحاول اللعب على وتر التفرقة، في نظر كثيرين، سرعان ما أثارت ردود فعل قوية، أبرزها من الكاتب سمير يحياوي الذي افتتح رده بهاشتاغ يقول: “أنا قبائلي، لكن ليس باسمي”، محذرًا من إعادة إنتاج سيناريو قديم يهمس في آذان القبائل بأنهم استثناء، وأن مستقبلهم يجب أن يكون خارج الجسد الجزائري، واصفًا ذلك بأنه “سم بطيء” قائم على مبدأ “فرّق تسد”.

 

وأكد يحياوي أن نقد السلطة أو سياساتها حق مشروع، لكن وحدة البلاد ليست مطروحة للمساومة، فالجزائر بلا القبائل ليست الجزائر، والقبائل بلا الجزائر ليست القبائل، مستحضرًا في مقاله جذور “السياسة القبائلية” الاستعمارية التي صاغها ضباط وباحثون فرنسيون في القرن التاسع عشر لعزل المنطقة وتصويرها كـ”جزيرة بربرية” وسط محيط عربي، مشددًا على أن التاريخ أثبت تلاحم الجزائريين في مقاومة الاستعمار وفي الثورة التحريرية، وأن الدعوة لانفصال القبائل اليوم لا تختلف جوهريًا عن أطروحات الذين أرادوا بقاء الجزائر تحت الوصاية. وحذّر من الوقوع في فخ “الاستثناء” الذي يعيد إنتاج هرمية استعمارية مغلفة بالمديح الزائف، داعيًا إلى فهم أن الوحدة لا تلغي التنوع، بل تحميه، وأن الانفصال ليس طريقًا لحماية الهوية بل لاقتلاعها من جذورها.
بدوره، رأى الروائي بشير مفتي أن ما نشرته المجلة يذكّر بمحاولات استعمارية بائسة لتقسيم الجزائريين بين “عرب أجلاف إرهابيين” و”قبائل ذوي أصول أوروبية”، مؤكدًا أن القبائل، منذ زمن الثورة، كانت جزءًا من النضال الوطني، وقدمت آلاف الشهداء لطرد المستعمر، وأن “لوبوان”، ومعها كتاب جزائريون على غرار كمال داود، يواصلون اللعب على وتر الفتنة، لكنهم لن ينجحوا.
وفي السياق ذاته، هاجم الصحافي أحمد تازير ما وصفه بإعادة المجلة إحياء “أسطورة الاستثناء القبائلي” الاستعمارية، معتبرًا أن تقديم القبائل كمنطقة “تقدمية ومعادية للإسلاميين” مجرد مغالطة، إذ يوجد فيها من التنوع والمحافظة ما يوجد في باقي مناطق الجزائر.

وأكد أن أسلوب “فرّق تسد” لم ينجح في زمن الثورة ولن ينجح بعد 63 سنة من الاستقلال، منتقدًا كمال داود بقوله: “كان عليه أن يعرف هذه الحقائق… أي عار هذا”.
أما عبد الرحيم مساور فذكّر بأن كل المكونات الجزائرية، من قبائل وعرب وشاوية ومزابيين وطوارق وشناوة وغيرهم، يشكلون شعبًا واحدًا، وأن المشروع الاستعماري لتقسيمهم فشل، ولن تتمكن “لوبوان” عام 2025 من شق صفوف أحفاد نوفمبر 1954 وروح الحراك السلمي.
واللافت أنه، في السنوات الأخيرة، برزت عدة تحركات ومواقف من أطراف يمينية في فرنسا، داخل البرلمان وخارجه، توحي بمحاولات منظمة لإبراز منطقة القبائل وكأنها كيان منفصل عن الجزائر، مع تبني خطاب يدعو إلى “حق تقرير المصير” ونفخ المطالب الانفصالية التي يتزعمها فرحات مهني، رئيس حركة “الماك” المصنفة إرهابية في الجزائر.

ففي حزيران/يونيو 2025، أثار استقبال وفد من منظمة “الماك” في مجلس الشيوخ الفرنسي من قبل النائبة اليمينية فاليري بوير، ثم النائب ستيفان رافيي، موجة غضب في الجزائر، حيث تم النظر للأمر على أنه محاولة إضفاء شرعية على تحركات فرحات مهني وأنصاره في فرنسا. وسبق لليمين الفرنسي أن تحرك في نفس الاتجاه سنة 2023، عندما وجّهت السيناتورة ذاتها فاليري بوير سؤالًا كتابيًا إلى وزيرة الخارجية آنذاك كاترين كولونا، طالبت فيه بموقف رسمي حول ما وصفته بـ”انتهاكات حقوق الإنسان في منطقة القبائل”.
واستندت بوير في طرحها إلى ما قالت إنه قمعٌ للنشطاء في المنطقة منذ تصنيف “الماك” منظمة إرهابية عام 2021، وذكرت أرقامًا عن مئات المعتقلين، وإغلاق أماكن عبادة مسيحية. وجاء تحركها ضمن سياق سياسي فرنسي داخلي يزايد على ملفات تخص الجزائر، بينها اتفاقية التنقل لسنة 1968، واستخدام اسم الجزائر كورقة في النقاشات الانتخابية.

ولعب فرحات مهني، الذي يقيم في فرنسا وصدرت ضده عدة أحكام بالمؤبد في الجزائر، دورًا نشطًا في استثمار هذه المواقف الفرنسية. ففي أعقاب عملية “طوفان الأقصى” ظهر في مسيرة بباريس داعمة لإسرائيل، رافعًا علم حركته إلى جانب العلم الإسرائيلي، ومصرحًا أن “منطقة القبائل تؤكد دعمها لإسرائيل”، وهو ما أثار استنكارًا واسعًا من سكان المنطقة وشخصياتها، الذين أكدوا أن مهني لا يمثل القبائل ولا يتحدث باسمها.
كما شمل نشاط “الماك” في الخارج محاولة تقديم أحداث تاريخية في الستينيات بشكل مزور، على أنها “حرب الجزائر على القبائل”، ما دفع أحزابًا معارضة تعد منطقة القبائل معقلاً لها، مثل “جبهة القوى الاشتراكية”، إلى الرد على ما وصفته بـ”تزييف الحقائق”، والتأكيد على انتمائها الوطني، ورفضها القاطع لأيّ توجه انفصالي.

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات