يشهد الملف الليبي–اليوناني، خلال الأيام الأخيرة، حالة من التفاعل الدبلوماسي المتسارع، تتقاطع فيه رسائل التهدئة مع تصريحات توحي بتصاعد التوتر بين طرابلس وأثينا، خصوصًا فيما يتعلق بملف ترسيم الحدود البحرية، وارتباطه بمذكّرة التفاهم الليبية–التركية الموقعة عام 2019. التطورات الأخيرة جاءت في سياق مشحون أصلًا، بعد سلسلة من المواقف الحادة المتبادلة بين مجلس النواب الليبي ومسؤولين يونانيين، قبل أن تعود أثينا اليوم لتؤكد احترامها للسيادة الليبية، بينما تستمر في التعبير عن تحفظاتها البحرية.
فقد أكد وزير الخارجية اليوناني، جورج جيرابيتريتيس، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الجزائري أحمد عطاف، أن بلاده «تحترم سيادة ليبيا احترامًا كاملًا وترفض أي تدخل خارجي يطالها». وهي رسالة تهدئة واضحة جاءت في توقيت حساس، بعد أيام فقط من توتر علني نتج عن مواقف يونانية رسمية اعتبرها البرلمان الليبي «تدخلاً مباشرًا» في الشأن الداخلي. وجدد الوزير اليوناني خلال المؤتمر دعم أثينا للمسار الذي «يعيد القرار إلى الليبيين عبر انتخابات حرة ونزيهة تقود إلى تشكيل حكومة تمثيلية حقيقية»، في إشارة إلى رغبة أثينا في التماهي مع الخطاب الدولي الداعي إلى إنهاء الانقسام السياسي في ليبيا عبر انتخابات شاملة.
في المقابل، وجّه الوزير الجزائري أحمد عطاف رسالة واضحة خلال المؤتمر نفسه، داعيًا اليونان إلى «النأي عن زمن الأزمات والصراعات والحروب»، معتبراً أن الوقت قد حان «للخروج من منطقة النزاعات في المتوسط، والانخراط في منطق المبادرة في بلورة الحلول السياسية، خاصة ما يتعلق بالأزمة السياسية في ليبيا». تصريح عطاف جاء بمثابة تذكير لأثينا بأن التعقيدات الحالية في المتوسط لا تحتمل مزيدًا من التصعيد، وأن الحلول السياسية تمر عبر احترام سيادة الدول وتجنّب التصريحات التي تزيد التوتر.
وإلى جانب الملف الليبي، تبادل الطرفان الجزائري واليوناني وجهات النظر حول القضية الفلسطينية وقضية الصحراء الغربية وأوضاع الساحل، إلا أن الرسائل الأكثر حساسية بقيت تلك المتصلة بليبيا، ولا سيما ما يتعلق بالخلافات البحرية. إذ لا تزال أثينا تتحفظ بشدة على مذكرة التفاهم البحرية التي وقعتها ليبيا وتركيا عام 2019، وتعتبرها «متعارضة مع مياهها الدولية» وتطالب بإلغائها. وقد سبق لرئيس البرلمان اليوناني نيكيتاس كاكلامانيس أن دعا رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح «إلى عدم التصديق على هذه المذكرة»، مؤكدًا –وفق بيان رسمي– أن إلغاءها «يصب في مصلحة ليبيا أولًا ثم اليونان».
هذه التصريحات أثارت قبل يومين ردًا حادًا من مجلس النواب الليبي، الذي أصدر بيانًا عبّر فيه عن «استغرابه ورفضه» لما وصفها بـ «التصريحات المتكررة» من مسؤولين يونانيين، معتبرًا أنها تمثل تدخلًا مباشرًا في الشأن الداخلي الليبي. وأكد البيان الصادر من بنغازي أن «ليبيا تملك سيادتها الكاملة، وتمتلك وحدها الحق في تحديد مصالحها العليا ووضع سياساتها دون إملاءات خارجية»، وشدد على أن الاتفاقيات التي تبرمها ليبيا «قرارات سيادية تخضع للقوانين الدولية ولا يحق لأي دولة أخرى فرض توجهات سياسية بشأنها».
وأشار المجلس إلى أن معالجة الخلافات المتعلقة بترسيم الحدود البحرية يجب أن تتم «عبر الأطر القانونية الدولية وليس من خلال تصريحات إعلامية تفتقر للنهج الدبلوماسي»، داعيًا الجانب اليوناني إلى «ضبط النفس واحترام السيادة الليبية»، محذرًا من أن استمرار مثل هذه التصريحات قد يفتح باب توترات لا تخدم العلاقات الثنائية.
ويأتي البيان في إطار سلسلة من السجالات التي شهدها الملف خلال الأسابيع الماضية، حيث كانت وسائل الإعلام اليونانية قد أكدت أن مذكرة التفاهم البحرية تمثّل هاجسًا حقيقيًا لأثينا، في ظل خلافات واسعة مع تركيا حول مناطق النفوذ في شرق المتوسط. أما في ليبيا، فقد بقي هذا الملف شديد الحساسية بالنظر إلى الانقسام السياسي الداخلي، إذ يرى بعض الأطراف أن المذكرة تخدم مصالح ليبيا في مواجهة الضغوط الإقليمية، فيما يعتبر آخرون أنها تضع البلاد في مسار صدام مع دول المتوسط وعلى رأسها اليونان.
ومع أن تصريح وزير الخارجية اليوناني بدا أقرب إلى محاولة لتهدئة التوتر، إلا أن تمسك أثينا بموقفها من المذكرة البحرية يشير إلى أن جذور الخلاف أعمق من مجرد تصريحات. فالقضية بالنسبة لليونان ترتبط بصراع طويل مع تركيا على مناطق النفوذ البحري، بينما بالنسبة لليبيا ترتبط بالسيادة والحق في إبرام اتفاقيات تراها في مصلحتها. وبينما تؤكد أثينا احترامها للسيادة الليبية، تستمر في مطالبة البرلمان الليبي بالتراجع عن اتفاقيات تراها متعارضة مع القانون الدولي، وهو ما تعتبره طرابلس ضغطًا خارجيًا لا يمكن قبوله.
بذلك، يظهر المشهد الراهن خليطًا من الرسائل المتناقضة: خطاب يوناني مزدوج يجمع بين الدعوة إلى احترام السيادة ومحاولة التأثير على القرارات الليبية، وموقف ليبي متمسك برفض أي تدخل خارجي، مقابل دعوات جزائرية إلى تهدئة مناخ المتوسط والانخراط في مقاربة سياسية تحترم سيادة الدول. وبين هذه التفاعلات، يبقى الملف الليبي مرة أخرى ساحة تتداخل فيها الحسابات الإقليمية، وتختبر حدود الدبلوماسية في شرق المتوسط.
تصاعد التوتر الليبي اليوناني رغم محاولات التهدئة

تعليقات الزوار
لا تعليقات