ولد الروائي ألبير كامو، الحائز نوبل للأدب سنة 1957، في الجزائر وعاش فيها، وتشكل وعيه الأول على شواطئها الشعبية وحاراتها الفقيرة. كان طفلا من «الأقدام السوداء»، لا يملك امتيازات المستوطنين الأغنياء، لكنه ظل في النهاية جزءا من منظومة استعمارية منحته – من حيث لا يدري – موقعا يتيح له النظر إلى العربي (الجزائري) من وراء زجاج قاتم. في كل أعماله، تتجسد الجزائر كأفق ضوئيّ، كمنظر طبيعيّ، كطقس، كضوء وحرارة، غير أنها نادرا ما تظهر كبلد يملك شعبا وقضية وتاريخا. ربما أحب كامو الجزائر، لكنه أحبها كجغرافيا، لا كذاكرة بشرية حيّة، ولهذا يقول بعض النقاد إن كامو «عاش الجزائر، ثم نفاها في الأدب». من هنا تطفو الأسئلة التي تُطرح حوله: هل نقل الواقع الجزائري؟ كيف عاش موقعه الاستعماري؟ ولماذا اختفى العربي (الجزائري) في رواياته، وأبرزها «الغريب»؟ ولمن كان يكتب كامو؟ وهل استحق جائزة نوبل بوصفه أديبا عالميا، أم بوصفه خطيبا سياسيا مفوها يرضي السردية الغربية؟
الواقع الجزائري في رواياته
من منظور نقد ما بعد الاستعمار، لا يمكن القول، إن كامو نقل الواقع الجزائري كما هو، وإن بمنظوره الفني، بل نقل واقعا مجتزءا، محدودا، من خلال زاوية نظر كولونيالية، حتى لو كان مستعمِرا فقيرا مهمّشا داخل المنظومة نفسها. ليست الجزائر في أدب كامو مجتمعا عربيا مسلما، يعيش تحت وطأة الاحتلال الفرنسي، بل هي فضاء ميتافيزيقي للعبث، للضوء، للصمت، للبحر، للقدر. يغيب الجزائريون كفاعلين، ويظهرون كخلفية بشرية صامتة، أو ككتل اجتماعية غامضة، أو كـ«الآخر» الذي لا صوت له. كامو لا يكذب، لكنه يختار. واختياره يفضح موقعه: يكتب عن الجزائر بوصفها بطاقة بريدية فلسفية، لا بوصفها وطنا يعيش صراعا وجوديا.
عاش كامو بين موقعين في آن: كمستعمر بحكم الهوية السياسية والقانونية، فقد كان أوروبيا في دولة استعمارية. هذا وحده كان يمنحه حقوقا وامتيازات لا يمتلكها العربي (الجزائري). ينعكس هذا الامتياز في كتابته، حتى عندما ينتقد الظلم الاجتماعي، فانتقاداته غالبا ما تدور حول «المساواة داخل المجتمع الأوروبي» لا العلاقة مع الجزائريين. ورغم مجادلة البعض، بأنه كان حساسا بحكم الوعي الأخلاقي تجاه الظلم، وكتابته عن الفقراء والمظلومين. لكنه – وهنا جوهر المشكلة – لم يرَ الجزائريين جزءا من هذه الدائرة الأخلاقية، إلا بشكل محدود جدا. هو شاهد على الظلم، لا ريب، لكنه يتردّد حين يكون الظالم هو نظامه، وحين يكون المظلوم العربي .
كامو همّش العربي في الغريب ومرّر/ برّر قبول قتله
في «الغريب» العربي بلا اسم. بلا ملامح. بلا تاريخ. هو مجرد شخص «العربي». وجوده سردي، لا إنساني. هذه الحيلة الأدبية – المتعمدة أو غير المتعمدة – جعلت موته يبدو عابرا، وغير مأساوي، بل وغير مستحق للتفكير الأخلاقي. كما يجعل القارئ والناقد يتساءلان: لماذا فعل ذلك؟ ربما كان منشغلا بالفكرة الفلسفية أكثر من الواقع السياسي، إذا سلّمنا بان قضية الرواية هي عبثية الوجود، لا الاستعمار. العربي وسيلة لاكتشاف عبثية «ميرسو»، لا شخصية كاملة، أو ربما كتب من موقع المستعمر الذي يعتبر العربي جزءا من الخلفية لا من المركز. وسواء أراد ذلك أم لم يرده، الراجح أنه كتب من داخل الثقافة الفرنسية الاستعمارية، لأنه خشي الاعتراف بأن الاستعمار نفسه جريمة، وهذا الاعتراف كان سيقوده إلى نتائج سياسية لا يرغب فيها (عكس ما نحاه جان بول سارتر). هل يستحق كامو جائزة نوبل كأديب عالمي، أم حصل عليها بسبب موقف سياسي؟
من خلال الملمح اللساني، فكامو كان يكتب أساسا للقارئ الفرنسي، ثم للقارئ الأوروبي عموما. لغته، مفاهيمه، أسئلته، أدواته الفلسفية، همومه الوجودية، كلها موجهة لقارئ يعيش في الثقافة الغربية. لم يكن العربي قارئا مفترضا لأعماله، ولذلك لم يسعَ لتقديمه كشخصية كاملة. ومع ذلك، فإن فلسفته أصبحت عالمية، لأن أسئلة العبث والحرية والتمرد أسئلة كونية. لكن العالمية لا تلغي حقيقته الثقافية الأولى: كامو ابن المدرسة الفرنسية، يكتب من داخلها ولأجلها. مُنحت جائزة نوبل لكامو سنة 1957، في ذروة حرب التحرير الجزائرية. كان هذا التوقيت مثيرا للجدل: لعدة أسباب، فمن الناحية الأدبية، لا شك أنه برع في صياغة الأسلوب البسيط العميق، إذ قدّم فلسفة وجودية خاصة به، «عبثية»، «متمردة» و»ذات مسؤولية أخلاقية». وصل إلى القارئ العالمي بلغته الشفافة والمكثفة. من هذا الجانب، يستحق كامو الجائزة بلا جدال.
أما من الجانب السياسي – وهو جانب جوهري لحساسية القضية وزمانها ومكانها-فيرى نفر غير قليل من محبي الأدب، أن منحه الجائزة في تلك اللحظة كان يضمر رسالة غربية، فحواها: تكريم «ابن الجزائر الفرنسي» في لحظة تمرّد الجزائر على فرنسا. تكريم خطاب يرفض العنف الثوري ويدعو إلى حل وسط، يبقي على بعض أشكال السيطرة الفرنسية.
كامو بين الحقيقة والالتباس
ربما كان كامو أديبا كبيرا، لكنه لم يكن إنسانيا بالمعنى الكامل، حين يتعلق الأمر بقضية شعب يطالب بحريته، رغم كونه كاتبا عظيما في مدونة الأدب الروائي العالمي، إلا أنه رسّخ – بوعي أو من دونه – جدلية الحضور والغياب، بما تحمله من إشكالية أخلاقية في الذاكرة الجزائرية. فهو كتب من الجزائر، لكنه لم يكتب عن الجزائر. رغم وقوفه طويلا أمام شمس الجزائر، وبحرها، وطرقاتها إلا أنه عجز عن رؤية شعبها الذي كان يعيش في الظل، لم يكن هذا الغياب مجرد تفصيل سردي، بل موقف ثقافي وسياسي. ويبقى السؤال الأكبر: هل كان كامو عاجزا عن رؤية العربي، أم كان يرى، ثم يختار أن يصمت؟ ربما كان يحب الجزائر، لكنه حبّ ناقص، مثل كل حبٍّ لا يرى الإنسان كاملا.
محمد فتيلينه

تعليقات الزوار
لا تعليقات