لم يكن إعلان 3 من دول منطقة الساحل الإفريقي، وهي مالي والنيجر وبوركينافاسو، استدعاء سفرائها من الجزائر، أمرا طبيعيا، إذ أصبح هذا البلد المغاربي، إثر هذه الخطوة، صاحب أكبر عدد من النزاعات الدبلوماسية مع جواره المباشر، وعمليا، صارت 3 دول من أصل 6 تُطوق حدوده البرية، في أزمات علنية معه.
ويضع هذا الأمر الدور الجزائري داخل القارة السمراء تحت المجهر، فهذا البلد، الذي يُعد منذ 50 عاما الطرف الفعلي الثاني في النزاع حول الصحراء، لم يعد متهما فقط باحتضان وتمويل جبهة "البوليساريو" الانفصالية، بل بـ"افتعال" الأزمات في كامل محيطه الإقليمي، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الجارة، وسط مناخ صعب متسم أصلا باللاأمن واللااستقرار، ما يدعه على مشارف الحرب.
المغرب.. مجرد البداية
انتماء الجزائر إلى 3 فضاءات إقليمية إفريقية، هي الاتحاد المغاربي وشمال إفريقيا ومنطقة الساحل، يبدو، من الناحية النظرية، امتيازا كبيرا يَمنح هذا البلد ذا المساحةِ الشاسعة التي تتجاوز 2,38 كيلومترا مربعا، تفوقا جُغرافيا له أبعاد اقتصادية وسياسية وأمنية، غير أن المسار الذي اتخذه قصر المرادية يشي بأن ما سيحدث عكس ذلك تماما.
الجزائر المحاطة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، تواليا، بتونس وليبيا والنيجر ومالي وموريتانيا والمغرب، شرعت في مسلسل الصراعات مبكرا مع إطاحة الحراك الشعبي لسنة 2019 بالرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة ووفاة رئيس أركان الجيش أحمد قايد صالح، ثم وصول عبد المجيد تبون إلى سدة الرئاسة والسعيد شنقريحة إلى قيادة القوات المسلحة.
البداية كانت مع المغرب بإعادة الصراع الإقليمي حول الصحراء إلى الواجهة منذ اليوم الأول لتنصيب تبون في دجنبر 2019، وصولا إلى أزمة الكركارات التي أنهتها القوات المسلحة الملكية بتدخل ميداني في نونبر من سنة 2020، انتهت بطرد عناصر جبهة "البوليساريو" من المنطقة واستعادة السيطرة على المعبر البري الوحيد الذي يربط المملكة بموريتانيا، ثم توسيع الجدار الأمني شرقا وفي أقصى الجنوب.
هذا الأمر، كان بمثابة ضربة عنيفة وغير متوقعة للسلطات الجزائرية الجديدة، الذي أعلنت حربا دبلوماسية واقتصادية ضد الرباط، في حين تولت "البوليساريو"، بالوكالة، إعلان "الحرب العسكرية"، إثر قرارها الانسحاب من اتفاق وقف إطلاق النار المبرم مع الأمم المتحدة سنة 2019، كل ذلك كان له مفعول عكسي، انتهى إلى إعلان الولايات المتحدة وفرنسا الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء، وإعلان إسبانيا ودول أخرى من الاتحاد الأوروبي، دعم مقترح الحكم الذاتي المغربي علنا.
من إسبانيا إلى الساحل
الصراع مع المغرب، وإن بدا أزليا بالنسبة للجزائر، فإنه لم يُغنيها عن الدخول في صراعات أخرى مع محيطها المباشر، ومن بين الدول التي اصطدمت معها، وإن كانت تنتمي لمحيطها المتوسطي لا الإفريقي، كانت هي إسبانيا، التي قررت، سنة 2022 سحب سفيرها منها وقطع العلاقات الدبلوماسية معها من جانب واحد، إثر إعلان رئيس وزراءها، بيدرو سانشيز، أن مدريد صارت تعتبر الحكم الذاتي المغربي الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية لإنهاء الصراع الإقليمي حول الصحراء.
لكن، وبشكل غير متوقع، ستجد الجزائر نفسها مضطرة إلى مواجهة سلسلة من الصراعات الجديدة على حدودها البرية المباشرة، الأمر الذي جعل من الصحراء ملفا واحدا ضمن ملفات أخرى تهدد مصالحها، بداية بانقلاب مالي في ماي 2021، ثم انقلاب بوركينا فاسو في يناير 2022، وصولا إلى انقلاب النيجر في يوليوز 2023، وكلها تحركات أطاحت برؤساء كانت تربطهم علاقات ودية بقصر المرادية، لذلك لعب هذا الأخير دورا رئيسيا في فرض عقوبات إقليمية على السلطات العسكرية داخل أروقة الاتحاد الإفريقي، وصلت حد تجميد عضويتها.
وعمليا، أصبحت الجزائر الآن شبه "مطوقة" بالخصوم، فمع المغرب تربطها حوالي 1600 كيلومتر من الحدود أغلبها لم يتم ترسيمه بعد، والمُرسم منها مغلق، تنضاف إليها 1376 كيلومترا من الحدود مع مالي، و951 كيلومترا مع النيجر، في حين أن علاقاتها مع تونس رهينة باستمرار الرئيس الموالي لها قيس سعيد في الحكم، وليبيا لا زالت تتلمس، دون جدوى، طريقها نحو إنهاء الانقسام، بينما تحافظ موريتانيا إلى الآن على علاقات متوازنة معها ومع المغرب في آن واحد، لكن مع منع مسلحي "البوليساريو" من التسلل إلى داخل أراضيها لاستهداف المصالح المغربية.
تحالفٌ في مواجهة الجزائر
إلا أن ما يجعل الأزمة الجديدة مع الثلاثي، مالي والنيجر وبوركينا فاسو، والتي اختار قصر المرادية ووزارتا الدفاع والخارجية، السكوت بشأنها إلى الآن، أمرا نوعيا، هو أنها قد تتحول في أي لحظة إلى صدام عسكري مباشر، لأن منطلقها كان هو إسقاط الجيش الجزائري لطائرة مسيرة اتضح أنها كانت تحوم شمالَ مالي فوق المناطق التي تعرف صراعا مسلحا مع الميليشيات الانفصالية الموالية للجزائر، ولم تتجاوز حدود البلاد.
صراع الجزائر مع مالي تحديدا ليس أمرا جديدا، ففي أكتوبر من سنة 2023 استدعت الحكومة الانتقالية في باماكو سفيرها من الجزائر العاصمة على خلفية "التدخل في شؤونها الداخلية"، عبر استضافة الفصائل المسلحة المنادية بانفصال الأزواد، لكن هذه المرة تحركت معها النيجر وبوركينافاسو، المرتبطة معها بتحالف عسكري ناجم عن اتفاقية Liptako Gourma.
هذا التحالف ينص على الدفاع المشترك للدول الثلاث ضد أي عدوان خارجي أو داخلي، والتنسيق الأمني والعسكري بين جيوشها الوطنية، مع تعزيز السيادة الوطنية والقطع مع النفوذ الخارجي ومحاولات التدخل في شؤونها الداخلية، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب بمنطقة الساحل، وينص بشكل صريح على أن أي اعتداء على إحدى تلك البلدان يُعد اعتداءً على الجميع.
هل هي الحرب؟
بالعودة إلى نص إعلان الحكومة الانتقالية في مالي، التي يقودها الكولونيل أسيمي غويتا، حول إسقاط الطائرة المسيرة، نجد أن ما تنص عليه اتفاقية الدفاع المشترك ينسحب على الأزمة مع الجزائر، حيث يتحدث عن أنها سقطت بفعل "عمل عدائي متعمد من قبل النظام الجزائري"، حيث عُثر عليها على بُعد 9,5 كيلومترات خارج الحدود الجزائرية.
وإذا كانت الجزائر قد لوحت مرارا بالحرب ضد المغرب، فإنها قد تواجه حربا حقيقية مع ثلاثي دول الساحل، فباماكو تحدثت وجود "نية عدائية مسبقة من الجانب الجزائري" لإسقاط الطائرة التي كانت تطارد "عناصر إرهابية ذات مستوى عال"، لتتهم الجزائر بـ"رعاية الإرهاب الدولي"، مقررة الانسحاب الفوري من لجنة الأركان المشتركة CEMOC.
وفي أبرز تطبيق عملي للاتفاقية المشترك بينها، قررت النيجر وبوركينا فاسو مساندة مالي، استدعاء سفيريها من الجزائر للتشاور، وهو أمر يبدو أن الجزائر، المشغولة بزيارة وزير الخارجية الفرنسي جون نويل بارو إلى أراضيها، لم تكن تتوقعه، خصوصا بهذه السرعة، لذلك، فإنها، وإلى غاية منتصف يوم الاثنين، لا زالت لم تُصدر أي رد.
تعليقات الزوار
لا تعليقات