الكلام عن الجزائر هنا لن يكون إلا بشكل عابر، لأن الأمر يتعلق بالحالة في تونس الشقيقة، كنا ننظر لها لوقت قريب من النافذة الجزائرية، كنموذج ناجح في الانتقال السياسي بعد التخلص من نظام بن علي في 2011، الذي دشن بداية لما سمي بالربيع العربي. لم يعمر طويلا للأسف، لينتكس كما هو واضح في كل الحالة العربية، وليس في تونس فقط، التي مثلت أملا كبيرا لتغيير ناجح في المنطقة العربية لما ميز المجتمع فيها من تجانس اجتماعي وثقافي – ديني، مفقود في الحالة العربية، زيادة على بعض خصائص النظام السياسي التونسي، على غرار طابعه المدني بما ميزه من ضعف حضور العسكر داخله. عساكر وقفت في وجه التغيير في أكثر من حالة عربية، كما حصل في مصر، على سبيل المثال، بقيت تونس بعيدة عنه لحد الساعة، وهي تصر على الطابع المدني المعروفة به، سيقلص من فاتورة التغيير مهما طال الانتظار.
الحالة التونسية التي لم يتم الانتباه داخلها بالقدر الكافي، رغم ذلك إلى بعض الشروخ السوسيو- ثقافية بحمولتها النفسية، التي تخترق النخب السياسية بصراعاتها الجهوية المسكوت عنها. تمظهرت لاحقا على شكل معاداة للنخب الحاكمة من قبل جماهير «بلاد السيبة»، التي حاول قيس سعيد استعمالها في معاركه السياسية منذ وصوله على رأس السلطة بغتة، بلا دعم مؤسسي واضح. بعد الضعف الذي لحق بأشكال التمثيل القديمة – التي اعتادت هذه النخب استعمالها كما كان الحال مع الغطاء النقابي تقليديا. نتيجة الأزمة التي تعيشها الفكرة النقابية في العالم وتونس، لتتعمق أزمة هذا التمثيل السياسي بعد فشل التيار الديني الإخواني في تسيير مرحلة الانتقال التي قادتها نخبه، كما مثلتها حركة النهضة الإسلامية، بواسطة نخب شرهة وصلت للسلطة لتعويض أيام الحرمان التي عاشتها أثناء تقسيم غنيمة سنوات الاستقلال الأولى، بعد إبعاد الفصيل السياسي، الذي مثل أبناء الجهات التي كانت استفادتها جد محدودة بعد الاستقلال، ضمن الحركة الوطنية، كما هو حال أبناء الجنوب والشمال الغربي والوسط. مناطق ما زالت تعاني من أزمة إنتاج تمثيل سياسي قادر على المنافسة داخل الحالة الوطنية. لتبقى بالتالي تونس تحت هيمنة نخب سياسية بسمك سوسيولوجي محدود، لم يساعد النظام السياسي قبل التغيير الحاصل في 2011- فترة بن على وجه الخصوص ـ على توسيعها وتفعيل أدوارها لكي تقوم بإنجاح الانتقال السياسي في هذا البلد صاحب الموارد الاقتصادية – المالية المحدودة. سهّل من مهمة الرئيس قيس سعيد في تجسيد نظرته الشعبوية، استغل فيها ذلك العداء التاريخي الذي يحمله المواطن للنخب الرسمية المستفيدة من مرحلة ما بعد الاستقلال، المتهمة بالفساد كأشخاص ووسط عائلي.
نخب رسمية التحقت بها تلك التي برزت خلال فترة ما بعد التغيير، اتهمها الرئيس الجديد بالفساد والأنانية، أخذت منازلته السياسية والقانونية لها، بعدا ذاتيا واضحا، عكست إلى حد كبير خصائص سعيد النفسية، ومساره المهني والسياسي المتسم بالكثير من الفردانية. قربته من الأطروحات السياسية الشعبوية، التي زاد حضورها الدولي في الحقبة التاريخية نفسها. منازلة تميزت بالشطط في استعمال العدالة التي يعرف الرئيس أستاذ القانون كيف يستغلها ضد خصومه، الذين ازدادت أعدادهم وتنوعت مشاربهم السياسية، في وقت لم يعد فيه من المستحيل أن يحصل ذلك اللقاء التاريخي المدمر بين المطالب السياسية والاقتصادية ـ الاجتماعية التي برز الكثير من مظاهرها في الآونة الأخيرة بتونس، كما ظهر في الحركة الاجتماعية التي طرحت مسألة البيئة في جهة قابس، بكل الآثار المسرعة التي يمكن توقع حدوثها في المناطق الجنوبية. قد لا تنفع معها نقاط قوة الرئيس التونسي، التي ما زال يتمتع بها لحد الآن لدى مريديه وهو في عهدته الرئاسية الثانية، على رأسها نظافة اليد والابتعاد عن مرض إشراك أفراد العائلة في الشأن السياسي العام، الذي اشتهرت به النخب السياسية التونسية الرسمية، منذ فترة بورقيبة وبن على وصولا إلى السبسي والغنوشي.
عاملان مهمان ما زالا يمثلان نقاط قوة سعيد السياسية، رغم ما ميز شخصيته من بُعد نفسي وعدم تواصل أقرب للجفاء، عبرت عنها لغته الفصحى الغريبة. حتى في المجتمع التونسي، الذي عرفت نخبه تقليديا بتحكم كبير في اللغة العربية الفصحى. ليفشل الرئيس سعيد في إنجاز تجنيد كبير لمريديه، كما ظهر منذ أيام بمناسبة ذكرى عيد الثورة الذي قرره هو في 19 ديسمبر بدل 14. عبر مسيرات حاولت القوى المعارضة استعمالها ضد ما سمي «بالتدخل الجزائري» في الشأن التونسي الداخلي. من قبل بعض النخب المتعودة على إقحام الجزائر في الشأن الداخلي التونسي كورقة إحراج للرئيس سعيد، الذي عرف بعلاقاته الجيدة مع الجزائر، كما كان الحال مع كل رؤساء تونس، إذا استثنيا حالة المرزوقي الشاذة. استعملت فيها صور لمواطنين تونسيون من المشاركين في المسيرة الأخيرة، من أبناء ريف الشمال الغربي المحاذية للحدود الجزائرية -التونسية بلهجة حديثهم المتقاربة مع الجزائريين كأبناء منطقة حدودية متجانسة اجتماعيا وثقافيا ـ العروش والقبائل نفسها تخترق الحدود من الجهتين، أو حتى صور لعائلات جزائرية في زيارة لتونس لصرف منحة السفر الممنوحة لهم في إطار هذه السياسة الشعبوية التي ابتلى بها البلد، وهي تخلق سائحا غريب السلوكيات أصبح يدخل إلى بلده بطريقة غير شرعية؟ ليكون مصيره السجن. وهو يحاول الاحتفاظ بقيمه المنحة السياحية بالعملة الصعبة للاستفادة من فارق سعر الصرف الرسمي والمطبق في السوق السوداء، لتزيد عليها هذه المرة ما سمته هذه الأوساط الكشف عن اتفاقية عسكرية جزائرية – تونسية تكون قد مست باستقلال تونس، حسب القراءة التي قامت بها وجوه سياسية تونسية معزولة، ومن دون قاعدة شعبية في الغالب، لا يمكن أن يعتد بها، لهذه الوثيقة المفبركة بواسطة «الغباء الاصطناعي»، التي تم الترويج لها للمس بالعلاقات الأخوية بين الجيشين والبلدين الشقيقين.
يحصل هذا التحرش بالجزائر في وقت سياسي تميز بركود واضح في مسيرة المشروع المغاربي، الذي كان يمكن أن يكون رافعة للحالة الوطنية، لم ينجح التقارب التونسي ـ الجزائري في تعويضه، خاصة إذا أضفنا له الأزمة في ليبيا، التي فشلت الدول المغاربية في إيجاد مخرج لها، يحمي المنطقة من أشكال التدخل الأجنبي. زاد في تعقيده ما يحصل في محيط المنطقة المغاربية بمناطق الساحل الافريقي، التي فاقمت حالة عدم استقرار المنطقة المغاربية ككل، أثرت سلبا على علاقاتها الأوروبية مع بلدان الضفة الشمالية للمتوسط، بينت لها بالملموس أن المسألة الأمنية لا يمكن حلها الا بشكل جماعي، من خلال نظرة واسعة تشمل كل هذا الفضاء الجغرافي الواسع، الذي يعيش ديناميات سياسية واقتصادية مختلفة يجب أن لا تكون متناقضة، مع مصالح الشعوب والبلدان.
ناصر جابي

تعليقات الزوار
لا تعليقات