أكد عميد مسجد باريس الكبير، شمس الدين حفيظ، متانة العلاقة التي تجمع بين المؤسسة التي يقودها وبين المخابرات الجزائرية، نافيا عن المسجد أن يكون أداة نفوذ سياسية، بل وسيلة لخدمة المسلمين بكل جالياتهم في فرنسا، كون التاريخ أثبت أن الإسلام الجزائري المتسامح هو الأنسب لفرنسا، وفق قوله.
وأوضح حفيظ في برنامج “يمين ويسار” على قناة “الخبر تي في”، أن مسجد باريس الكبير لم يكن في أي مرحلة مؤسسة منفصلة عن الجزائر، بل تأسس تاريخيا عبر مسار جزائري خالص، مذكرا بأن جمعية الأحباس والأماكن المقدسة الإسلامية، المالكة للمسجد، وُلدت سنة 1917 في الجزائر، وسُجلت قوانينها الأساسية لدى محكمة الجزائر، وكان مقرها الاجتماعي المسجد الكبير بالجزائر العاصمة. وأضاف أن الشيخ قدور بن غبريط، الذي يعد المؤسس الفعلي للمسجد، عاد إلى الجزائر بعد الحرب العالمية الأولى لتعديل قوانين الجمعية تحضيرا لبناء مسجد في باريس، مع الإبقاء على الجزائر كمرجعية قانونية وروحية.
وأشار إلى أن تمويل المسجد قبل استقلال الجزائر كان يتم عبر الإدارة الاستعمارية باعتبار الجزائر مقاطعة فرنسية آنذاك، لكن بعد الاستقلال تغير الإطار السياسي وبقي الارتباط الروحي والتاريخي قائما. واستحضر محطة سنة 1982، التي وصفها بالمفصلية، حين قرر الرئيس الشاذلي بن جديد، باتفاق رسمي وعلني مع الدولة الفرنسية، أن تتولى الجزائر تمويل مسجد باريس الكبير، مع إرسال أئمة منتدبين، وهو ما تم دون أي غموض أو سرية. وشدد على أن هذا التمويل معروف لدى السلطات الفرنسية ومؤطر قانونيا، ولا يختلف من حيث المبدأ عن تمويل دول أخرى لمؤسسات دينية في فرنسا.
وأكد شمس الدين حفيظ أن كل من تولى عمادة مسجد باريس كان مولودا في الجزائر ويحمل جنسيتها، مع وجود حالات ازدواج جنسية، معتبرا أن ذلك يعكس طبيعة المسجد كامتداد لتاريخ الإسلام الجزائري في فرنسا. وذكّر بتشييع عميد المسجد الراحل حمزة بوبكر سنة 1995، حين نقل جثمانه بطائرة عسكرية جزائرية خاصة، ولفّ بالعلم الوطني، في مراسم رسمية عكست المكانة الرمزية العميقة للمسجد في الذاكرة الجزائرية.
وردّا على الاتهامات المتكررة التي تصف المسجد بأنه أداة نفوذ، وبأن عميده الحالي “سفير غير معلن” للجزائر، شدد حفيظ على أن الجزائر تمتلك جهازا دبلوماسيا كاملا، ولا تحتاج إلى بدائل، معتبرا أن هذه الاتهامات تهدف إلى التشويه ووضعه في خانة سياسية ضيقة. وأقر في المقابل، بأن مسجد باريس يحمل صوت الجزائر في المجال الديني والثقافي، انطلاقا من قناعته بأن الإسلام الجزائري، ببساطته وإنسانيته، هو الأكثر انسجاما مع المجتمع الفرنسي.
وبخصوص مستقبله على رأس المؤسسة، عبّر عميد مسجد باريس عن رغبته في مواصلة مهمته، رغم شعوره بالإرهاق، مؤكدا أن عهدته الحالية قاربت على نهايتها، وأنه يعتزم الترشح لعهدة جديدة، منتظرا قرار أعضاء جمعية الأحباس. وأكد أن عمادة مسجد باريس مسؤولية دينية وثقافية ثقيلة، ذات أبعاد سياسية بحكم الواقع، وأنه سيواصل العمل من أجل ترسيخ صورة إسلام جزائري مستنير، يشكل جسرا أخلاقيا وإنسانيا بين الجزائر وفرنسا، في انتظار تجاوز الأزمات وبناء علاقة أكثر هدوءا وتوازنا بين البلدين.
وعن تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا، توقف حفيظ مطولا عند الجدل الذي أثاره أحد استطلاعات الرأي حول المسلمين في فرنسا (أنجزته مؤسسة إيفوب)، منتقدا طريقة طرح بعض الأسئلة المتعلقة بالممارسة الدينية، واعتبر أنها تعكس جهلا بخصوصيات الإسلام وبحياة المسلمين اليومية. وتأسّف في المقابل للتعتيم الذي ساد نتائج الاستطلاع الذي شارك فيه المسجد، والذي أظهر أن 82 بالمئة من الشباب المسلمين يشعرون بولاء كامل لفرنسا، لصالح التركيز على نتائج أخرى تخدم أجندات المتطرفين.
وحول الأخبار التي تحدثت عن احتمال تورط دولة الإمارات في تمويل ذلك الاستطلاع، قال حفيظ إنه لا توجد إلى غاية الآن أدلة مادية تثبت صحة هذه المعطيات خارج التقارير الإعلامية. لكنه أشار إلى أنه، في حال ثبوت هذه الفرضية، فإن الأمر سيكون تدخلا غير مقبول على الإطلاق، لأن استخدام الإسلام أو المسلمين في صراعات سياسية أو أجندات خارجية أمر مرفوض من حيث المبدأ.
وفي هذا السياق، تساءل حفيظ عن المعايير المزدوجة في التعامل مع هذا الملف، مذكرا بأنه كلما جرى الحديث عن تمويل الجزائر لمسجد باريس، تم اتهام المسجد بأنه يؤدي دور ”إسلام القنصليات” في حين يسود الصمت إذا ثبت تدخل طرف آخر. وأضاف أن الجزائر، خلافا لما يُروّج، لم تطلب يوما من أي مؤسسة استطلاع رأي إجراء دراسات لخدمة أجندة سياسية، ولم تحاول التأثير على مسجد باريس أو توجيه مواقفه. وتابع يقول إنه ينتظر نتائج التحقيق الرسمي المفتوح حاليا قبل اتخاذ أي موقف، مشددا على أن مسجد باريس يرفض أي توظيف سياسي للإسلام، أيا كان مصدره.
الأزمة الدبلوماسية
وفي تناوله للعلاقات الجزائرية- الفرنسية، شدد حفيظ على أن الأزمة الحالية لها جذور تاريخية عميقة، مرتبطة أساسا بملف الذاكرة والاستعمار. وأكد أن مشروع قانون تجريم الاستعمار يندرج ضمن مسار طبيعي لمواجهة تاريخ مؤلم دام 132 سنة، تخللته جرائم جماعية وتدمير ممنهج للبنية الاجتماعية والثقافية للجزائر. واعتبر أن مواجهة هذا التاريخ لا تتناقض مع بناء علاقات مستقبلية متوازنة، داعيا إلى الاعتراف بالحقيقة دون تهويل أو إنكار.
وتوقع حفيظ أن تقابل خطوة تجريم الاستعمار الفرنسية بانتقادات من بعض التيارات السياسية الفرنسية، خاصة تلك التي ما تزال أسيرة حنين “الجزائر الفرنسية”، لكنه شدد على أن هذه الفئات تبقى أقلية صاخبة، ولا ينبغي بناء السياسات الجزائرية على ردود أفعالها.
وتحدث العميد في السياق عن بعض إشارات التهدئة، على غرار قرار العفو عن الكاتب بوعلام صنصال الذي شكّل حسبه مصدر ارتياح للجالية، خاصة أن هذه القضية عقدت العلاقات بين البلدين بشكل غير مسبوق. وذكّر بأن صنصال فرنسي منذ فترة قصيرة، لكنه جزائري بالميلاد، وأن مسألة ازدواج الجنسية غير معترف بها لا في فرنسا ولا في الجزائر، ما جعل وضعه القانوني معقدا منذ توقيفه في مطار الجزائر وهو يحمل جواز سفر جزائري.
وأوضح أن المتابعة تمت وفق القانون الجزائري، وأن السلطات الفرنسية اعتبرته فرنسيا وسعت إلى تفعيل الحماية القنصلية، وهو ما لم يتم. واعتبر أن قرار العفو الذي اتخذه الرئيس عبد المجيد تبون كان شجاعا للغاية، ويعكس استعداد الجزائر لإيجاد مخارج للأزمات، مؤكدا أن القضاء قام بدوره، وأن رئيس الجمهورية، بصفته أول قاضٍ في البلاد، اتخذ قراره بعد استنفاد كل طرق الطعن، وهو قرار لم يكن سهلا، حسب تعبيره.
وأشار إلى أن هذا القرار خفف عبئا كبيرا عن الجالية الجزائرية في فرنسا، التي وجدت نفسها في قلب هذا الجدل، مؤكدا أنه شخصيا عبّر سابقا، بصفته محاميا، عن قناعته بأن السجن، مهما كانت التهمة، يظل من أقسى العقوبات. وأضاف أن القضية طويت، مستحضرا مقولة هواري بومدين “نطوي الصفحة ولا نمزقها”، مع التأكيد على رفض أي مساس بالوحدة الترابية للجزائر، واصفا هذه المسألة بأنها خط أحمر.
بخصوص إعلان حركة “الماك” الانفصالية ما سمته استقلال منطقة القبائل انطلاقا من الأراضي الفرنسية، قال حفيظ إنه عاش هذا الحدث بمرارة شديدة، معتبرا أنه حتى وإن بدا هذا الفعل غير جدي، فإنه يشبه لعب طفل بالنار، وقد تكون عواقبه غير محسوبة. وشدد على ضرورة أخذ مثل هذه المحاولات على محمل الجد، وفهم الأسباب التي دفعت أشخاصا مثل فرحات مهني زعيم هذا التنظيم، إلى هذا المسار، مذكّرا بأن والده كان شهيدا، وأن منطقة القبائل قدمت تضحيات جسيمة من أجل استقلال الجزائر.

تعليقات الزوار
لا تعليقات