يتجه مقترح قانون تجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر لنيل كامل أصوات نواب المؤسسة التشريعية، في لحظة إجماع تاريخية جمعت كل الأطياف السياسية على كلمة واحدة في ظل تزكية واضحة من الحكومة التي باركت المبادرة.
ومنذ الساعات الأولى، لعرض ومناقشة النص بالمجلس الشعبي الوطني يوم السبت 20 كانون الأول/ ديسمبر، بدت القاعة في حالة استثنائية، حيث تزينت بالراية الوطنية، فيما توشح النواب وأعضاء الحكومة الحاضرون بالألوان الثلاثة الأخضر والأبيض والأحمر.
ومع انطلاق الأشغال، تعالت صيحات فرح وزغاريد داخل القاعة، في مشهد مشحون برمزية قوية للحدث، باعتباره أول مسعى تشريعي يضع مسألة تجريم الاستعمار الفرنسي في إطار قانوني صريح بعد عدة مبادرات فاشلة، خلال الثلاثين سنة الماضية.
وجرت مناقشة المقترح باعتباره نصا تشريعيا يوفر، حسب ما ورد في مداخلات عديدة، غطاء قانونيا للدولة الجزائرية، ويعزز موقف ممثليها في مخاطبة الدولة الفرنسية بشأن القضايا المرتبطة بالذاكرة الوطنية، وذلك بحضور أعضاء من الحكومة وممثلين عن منظمات الأسرة الثورية، ما أضفى على النقاش بعدا رمزيا وتاريخيا إضافيا.
وفي هذا السياق، عرض رئيس المجلس الشعبي الوطني، إبراهيم بوغالي، نص مقترح القانون نيابة عن رؤساء الكتل البرلمانية، مؤكدا أن مسألة تجريم الاستعمار هي “قضية شعب بأكمله”، تذوب فيها الحساسيات وتلغى الاختلافات. واعتبر أن عقد هذه الجلسة لا يندرج ضمن الإجراءات البرلمانية الروتينية، بل يمثل فعلا سياديا وموقفا أخلاقيا ورسالة سياسية واضحة، تعبر عن تمسك الجزائر بحقها غير القابل للتصرف ووفائها لتضحيات شعبها ورسالة شهدائها.
وأوضح بوغالي أن مقترح القانون لا يقتصر على كونه نصا تشريعيا فحسب، بل يشكل، في نظره، لحظة وعي ووفاء ومحطة فارقة في مسار الجزائر الحديثة، تجدد فيها الدولة، عبر مؤسستها التشريعية، عهدها مع الذاكرة الوطنية ومع ضمير التاريخ. وأبرز أن النص يقوم على تعداد جرائم الاستعمار الفرنسي، وتحديد مسؤولية الدولة الفرنسية عن ماضيها الاستعماري، ووضع آليات للمطالبة بالاعتراف والاعتذار، إلى جانب إقرار تدابير جزائية لتجريم تمجيد الاستعمار أو الترويج له.
وشدد رئيس المجلس على أن المقترح لا يستهدف أي شعب ولا يسعى إلى الانتقام أو تأجيج الأحقاد، بل ينطلق من مبدأ مفاده أن الجرائم ضد الإنسانية لا تمحى بالتقادم ولا تبرر بالقوة ولا تغلق ملفاتها بالصمت. واعتبر أن النص يمثل فعل وفاء للدفاع عن الحقيقة قبل أن يكون موقفا سياسيا، ورسالة إلى الداخل والخارج بأن الذاكرة الوطنية الجزائرية غير قابلة للمحو أو المساومة.
وفي تفصيله لمضامين المقترح، أشار بوغالي إلى أن النص يستند إلى مبادئ قانونية مكرسة دوليا، ويؤكد أن الاستعمار الفرنسي للجزائر جريمة دولة تتحمل فرنسا مسؤوليتها القانونية والأخلاقية. واستحضر في هذا الإطار ما وصفه بمشروع متكامل للاقتلاع والتجريد، قام على اغتصاب الأرض ومصادرتها، وسياسات الإفقار والتجويع والتهميش، إضافة إلى النفي والتهجير القسري وتشريد العائلات، وزج الجزائريين في محتشدات ومعسكرات قاسية.
وتوقف رئيس المجلس عند المجازر الجماعية وجرائم القتل العمد التي شهدتها الحقبة الاستعمارية، وكذا التفجيرات النووية التي أجرتها فرنسا في الصحراء الجزائرية، والتي قال إنها خلفت أضرارا صحية وبيئية لا تزال آثارها قائمة إلى اليوم. وخلص إلى الإعراب عن اعتزازه بالشعب الجزائري، معتبرا هذا القانون إحدى ثمار نضاله الطويل وإصراره المستمر على الدفاع عن سيادته وكرامته.
من جهته، اعتبر وزير المجاهدين وذوي الحقوق، عبد المالك تاشريفت، أن مقترح القانون يؤكد أن “الجزائر المنتصرة” (شعار الرئيس تبون) لا تساوم على ذاكرتها الوطنية ولا تقبل المساس بحقائقها التاريخية. وقال في كلمة ألقاها خلال الجلسة، إن النص يجسد إدانة نظام استعماري قام على القهر والظلم، ويبرز تمسك الدولة بحقها السيادي في صون تاريخها الوطني والدفاع عن ذاكرتها بكل الوسائل.
وأوضح الوزير أن ملف الذاكرة الوطنية يحظى بعناية خاصة من قبل الدولة، باعتباره منبعا للقيم والمبادئ ومدخلا لتحقيق العدالة، مشيرا إلى أن مقترح القانون يشكل خطوة نوعية لتعزيز المنظومة التشريعية الوطنية المعنية بحماية الذاكرة. ولفت إلى أن التذكير بجرائم الاستعمار ليس مجرد استحضار للماضي، بل واجب أخلاقي وتاريخي، بالنظر إلى فظاعة تلك الجرائم وحجمها.
وأكد تاشريفت أن ما تعرضت له الجزائر من جرائم استعمارية لا يسقط بالتقادم، وفقا للمبادئ والمواثيق الدولية، ولا يمكن طيّه بالتناسي، مشددا على أن العدالة الإنسانية لا تتحقق دون اعتراف، ولا يُبنى مستقبل كريم دون إنصاف.
وخلال الجلسة، عبّر رؤساء المجموعات البرلمانية عن دعمهم لمقترح القانون، معتبرين أنه يعكس إجماعا وطنيا نادرا حول قضية سيادية، فيما ساد النقاش طابع التوافق أكثر من الجدل، في ظل تقاطع المواقف بشأن ضرورة حماية الذاكرة الوطنية ووضعها في إطار قانوني واضح.
ويُنتظر أن يعرض المقترح لاحقا للتصويت، وسط توقعات بحصوله على جميع الأصوات داخل المجلس الشعبي الوطني، ما سيسمح للنص بمواصلة مساره التشريعي في مجلس الأمة الذي يعد الغرفة الثانية للبرلمان، قبل أن يتم اعتماده رسميا وينشر في الجريدة الرسمية ليصبح ساري المفعول.
مضمون النص
يذكر أن النص الذي عكفت على صياغته لجنة برلمانية من مختلف الأطياف، يتضمن خمسة فصول تضم 27 مادة، تتمحور حول تحديد أهداف النص التشريعي، وحصر جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وضبط الأحكام القانونية المتعلقة بمسؤولية الدولة الفرنسية عن ماضيها الاستعماري، إلى جانب آليات المطالبة بالاعتراف والاعتذار الرسميين، وإقرار أحكام جزائية تُجرّم تمجيد الاستعمار أو الترويج له بأي شكل من الأشكال.
ويؤسس المقترح في مادته الأولى للإطار المبدئي للقانون، من خلال التأكيد على أن الجزائر، استنادا إلى تضحيات شعبها وتمسكه بوحدته الوطنية وهويته الثقافية، تناهض الاستعمار بكل أشكاله وتدين ممارساته، وتلتزم بدعم الجهود الدولية والإقليمية الرامية إلى تصفيته.
أما المادة 3 فتمنح توصيفا قانونيا صريحا للاستعمار الفرنسي باعتباره “جريمة دولة”، وهو توصيف يحمل أبعادا قانونية وسياسية، لأنه يربط الانتهاكات بمسؤولية كيان سيادي، لا بأفعال معزولة. وتنسجم هذه المادة مع المادة 4 التي تلزم الدولة الجزائرية بالعمل على كشف الحقائق التاريخية المرتبطة بالاستعمار ونشرها، في تأكيد على مركزية الذاكرة والتوثيق في مقاربة هذا الملف.
ويُعد الفصل الخاص بجرائم الاستعمار، من أكثر فصول المشروع تفصيلا، حيث تسرد المادة 5 قائمة واسعة من الأفعال التي تُصنّف كجرائم، بدءا من القتل العمد والهجمات العسكرية ضد المدنيين، وصولا إلى الاستخدام المفرط للقوة والأسلحة المحرمة دوليا، بما فيها زرع الألغام والتجارب النووية. ويبرز في هذا السياق إدراج التفجيرات النووية ضمن الجرائم، مع ما تحمله من أبعاد إنسانية وبيئية طويلة الأمد، وهو ما ينسجم مع الإشارة لاحقا إلى ضرورة تنظيف المواقع الملوثة وتعويض الضحايا.
ولا تقتصر المادة نفسها على الجرائم العسكرية، بل تمتد إلى الجرائم الاقتصادية والاجتماعية، مثل السطو على خزينة الدولة، والنهب الممنهج للثروات، ومصادرة الممتلكات، وفرض القوانين الاستثنائية على الجزائريين دون غيرهم. كما تسجل انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، من تعذيب جسدي ونفسي، وتمييز عنصري، وحرمان متعمد من الحقوق الأساسية، والنفي والترحيل القسري، والاختطاف والإخفاء القسري، والاحتجاز خارج الأطر القانونية.
وتولي المادة 5 اهتماما خاصا بالانتهاكات الثقافية والدينية، من خلال تجريم تدنيس دور العبادة، والتنصير القسري، ومحاولات طمس الهوية الوطنية، إضافة إلى الاعتداء على حرمة الموتى والتنكيل برفاتهم، وهو ما يعكس شمولية المقاربة التي لا تحصر الجريمة في بعدها المادي فقط. وتُضاف إلى ذلك ممارسات مثل التجنيد الإجباري، وإنشاء محاكم خاصة دون ضمانات، واستخدام المدنيين كدروع بشرية.
وتأتي المادة 6 لتؤكد مبدأ عدم التقادم، حيث تنص صراحة على أن جرائم الاستعمار لا تسقط بالتقادم، بغض النظر عن صفة مرتكبيها أو أدوارهم، سواء كانوا فاعلين أصليين أو شركاء أو محرضين أو منفذين لأوامر صادرة عن سلطات استعمارية. ويمنح هذا النص للقانون بعدا ردعيا وتاريخيا، باعتبار أن مرور الزمن لا يلغي المسؤولية. وتكمل المادة 7 هذا التوجه بتجريم كل صور التعاون مع السلطات الاستعمارية، واعتبارها خيانة عظمى، في سياق يربط بين الذاكرة الوطنية والمساءلة القانونية.

تعليقات الزوار
لا تعليقات